من القارة العجوز شحنت طاقتي الشبابية.. ودونت ملاحظاتي ومشاهداتي التي من بينها تلك الدقة المتناهية في تفصيلات صغيرة في الحياة، والتقدم الصناعي والفكري الذي تحظى به الدول الأوروبية، فضلاً عن جدية الناس والطرح. أتأمل كيف أن الاتحاد الأوروبي – على الرغم من تعثره في بعض الجوانب – كان النموذج الأبرز الشاهد على نجاح الاتحادات واستمرارها، وكان مثالاً لم نتوانى لسنوات في دول الخليج العربي عن العمل على الاقتداء بروحه الاتحادية لاسيما من حيث المضمون، وإن كان ثمة اختلافات في وجهات النظر لصناع القرار السياسي المعنيين بالأمر في التحول الفعلي للاتحاد. وأحسب أننا في الخليج العربي قد نمر بعثرات ومنزلقات كالتي مرّ بها الاتحاد الأوروبي، ولكننا قادرون على المضي قدماً في كل الأحوال، حتى وإن اضطررنا في وقت ما إلى تغيير الهياكل التنظيمية، وتحديد شكل الاتحاد الجديد. وعندما نتفكر كم أن وحدة الشنغن فتحت لنا الآفاق كسوّاح أو باحثين خليجيين في سهولة التنقل بين 26 دولة أوروبية، دون الحاجة لتخطيط مسبق أو تعقيدات لكل بلد على حده، يحدونا الأمل أن يكون لنا كيان خليجي بنظام أمني موحد، بغض النظر عن الآلية، بطريقة نؤكد فيها للعالم أجمع أن التجربة الخليجية ناجحة وإلى مزيد من التقدم.

ما يستحق الحديث عنه هنا، هو ما لفتني من اهتمام الباحثين والمحللين والساسة الأوروبيين بالخليج العربي، وهو اهتمام تاريخي ليس وليد اللحظة، غير أني تعاملت معه للمرة الأولى على نحو يجعلني أتساءل حول جدوى العودة إلى الحضن الأوروبي من جديد، فأوروبا قد تكون أفضل الخيارات المتاحة لصيانة أمن الخليج في وقت بتنا نلحظ فيه ملياً كيف تتشكل التحالفات الدولية بصمت، وكيف تجمع تلك التحالفات الجديدة حلفاؤنا وأصدقاؤنا وخصومنا في سلة واحدة، وكيف أنها أمست تقوم على مصالح غير مصالحنا، بل انها باتت تخرجنا من معادلاتها في كثير من الأحيان ولا تعود إلاَّ للتزود بالطاقة أو مصالح أخرى. بينما ما زال الأوروبيون -ورغم ما قد يحققوه من مصالح استراتيجية في المنطقة وفقاً للحق المشروع- خياراً أمثل، ربما لأنهم الأكثر خبرة في الخليج العربي من الداخل، والأقدر على تقديم الحلول المناسبة لمشكلاته والتهديدات التي يتعرض لها، بينما يفاجؤنا حلفاء آخرون في كل معركة على الاستدارة في خضم التلاحم. غير أن الأوروبيين – باعتقادي – لم يعودوا يقفزون إلى تحالفات إضافية خارجية تشكل تهديداً، وبات التعاطي معهم أكثر وضوحاً واستقراراً من تشكل كيانات جديدة بالخفاء، وإذا ما أبصرت النور فعلياً يكون قد فات الأوان على دول الخليج ووقع الفأس في الرأس.

* اختلاج النبض:

في مراكز الفكر والدراسات الاستراتيجية والمستقبلية الأوروبية، وجدت أفقاً خليجية أرحب لمناقشة هموم الخليج مع حامليها. فهل يحق لنا تهميشهم وكأنهم لم يكونوا صالحين للعلاقة إلاَّ في القرن الثامن عشر عندما كانوا في صراع مع دول الخليج العربي؟ أو في القرن التاسع عشر عندما كنا تحت الحماية الأوروبية؟ بينما أمامنا العودة إلى الحضن الأوروبي الدافئ، ولكن بحزمة من الحذر.. وأطنان من القوة التي يجب أن نكتشفها في الذات الخليجية، على سبيل التحوط، ولكي لا ندخل جحر ضب مرتين. نقول ذلك رغم أن مفكراً عربياً كبيراً كالأمير تركي الفيصل قد علق على جدوى ذلك ممازحاً بذم العودة لحضن عجوز.