إن كنا جميعاً متفقين على المبدأ الذي يقول بأنه "لا مساس بمكتسبات المواطن"، وهو التأكيد الصادر دائماً من الدولة والحكومة، فإن علينا جميعاً كل في موقعه، سواء في السلطة التنفيذية أو التشريعية أو حتى القطاع الخاص، كلنا بلا استثناء، علينا أن نتمسك بمبدأ "عدم المساس" هذا، والذي يعني "الحماية التامة" لحقوق المواطنين ومكتسباتهم.

وعليه، إن تم الثبات على التمسك بالمبدأ، فإن الخطوة التي تليه ستكون واضحة جداً، وستتمثل بالضرورة في التفكير "خارج الصندوق" أو بتعبير أدق "خارج جيب المواطن" لإيجاد حلول للملفات الاقتصادية وتحديداً تلك المعنية بالوضع المالي ووضعية الرسوم وأفكار إقرار ضرائب هنا وهناك.

هذا التفكير يقودنا بالضرورة لـ"تفكيك" الوضع، و"تحليل" المعطيات، وما أعنيه هو "تبسيط" كل الأمور إلى "أرقام"، ووضعها في جداول واضحة، جداول بسيطة غير معقدة، تكون مفهومة، وتكون شارحة بسهولة للوضع ولـ"ما لنا وما علينا".

ما أعنيه، أننا بحاجة اليوم لمعرفة حجم الإيرادات المالية للدولة، من استثمارات وعوائد لصادرات، وكل ما يدخل في الموازنة من أموال متحصلة، تأتي من خلال النشاط التجاري والمالي للدولة.

اليوم ما أعرفه كمواطن قد لا يكون واضحاً بشأن العائد المالي للدولة، قد تعلن أرقام ضخمة هنا وهناك ومن عدة مصادر، وقد نجد أخباراً في مواقع اقتصادية تشير مثلاً لحجم الإيرادات وحجم المدخول من الصادرات، لكننا لا نملك جدولاً رسمياً يبين إيرادات الدولة وصادراتها بطريقة واضحة يفهمها المواطن البسيط، ولعل هناك جداول كما قلت، لكن التعقيد فيها يسبب حالة من الضبابية أيضاً، بالتالي نحتاج للتبسيط.

مثلاً، يتضمن هذا الجدول حجم العوائد من التجارة النفطية، ومن الصادرات غير النفطية، وحجم ما توفر من الدعم المالي للحوم مثلاً، وما استفادت به الدولة من رفع بعض الأسعار مثل المحروقات، وما جنته من الرسوم في بعض الجهات مثل الجمارك والتأشيرات وسوق العمل وغيرها من مداخيل تدخل على البلد.

أرجو ألا يتوجس أحد من المطلب، لأنه لو صدر من عضو برلماني فإن الدستور واللوائح البرلمانية تفرض على المعنيين في الحكومة التعاون والتزويد بالمعلومات، وهنا الفكرة بأن علينا معرفة عوائدنا وإيراداتنا كنقطة أولى، حتى يمكننا بعدها "برمجة" عملية المصروفات وفقاً لها بشكل صحيح.

أدرك بأن وضع الميزانيات الخاصة بكل القطاعات يتم وفق آلية معينة، وأن طلبات القطاعات بناء على الاحتياجات سواء من مصروفات تشغيلية أو موازنات للمشاريع المستقبلية تكون بمثابة "العمود الفقري" لبناء مقترح الموازنة الخاصة بها، لكن من المهم هنا أن تكون "البرمجة" بحسب "المتاح"، وبحسب الاستطاعة، خاصة وأنني أذكر أنه مرت علينا سنوات، كانت لبعض القطاعات "فوائض" من الميزانيات لم تستخدم، ما يعني أن أمورها التشغيلية مشت بصورة سلسلة دون مشاكل.

ومثلما هناك جدول للإيرادات، هناك جدول للمصروفات، والجدول الثاني مهم أيضاً لأنه يبين حجم الإنفاق، ويمكن من خلاله العمل على "تقليص" أمور ما ليست ذات أولوية، أو وقف مشروعات قد لا تكون ضرورية في الوقت الراهن، ويمكن بيان المواضع التي يكون فيها صرف كبير قد يكون في مجال لتقنينه، وكذلك يمكن تحويل ميزانيات من بند لآخر.

لست خبيراً اقتصاديًا، لكنني أتكلم بالمنطق، إذ حينما نعاني من وضع مالي صعب، فإن عمليات التقشف وتقنين النفقات لا بد وأن تكون في بنود المصروفات بشكل واضح وفعال، وهذا يكون من خلال "إعادة جرد" للميزانية العامة، ووقف ما يمكن وقفه، وتخفيض ما يمكن خفضه.

التفكير في الحلول يمكن، وإيجادها أيضاً يمكن، لكن ما نلاحظه وللأسف أن تمت الاستعاضة بالتفكير بالحلول من داخل جداول الإيرادات والمصروفات، بالتفكير في تقليل مكتسبات المواطن، أو زيادة الرسوم، وهي أمور تتعارض مع مبدأ "عدم المساس بمكتسبات المواطن".

أعتقد أننا بحاجة ملحة لـ"مصارحة" ولـ"مواجهة واقعية" بشأن إدارة العجلة الاقتصادية والمالية في البلد، هناك خلل ما، واضح أن هناك صعوبة في جوانب معينة، وكل هذه الجوانب لا تمنح المسوغات لأن نمس المواطن أو نقلل من مكتسباته.

الحل ليس عند المواطن، الحل بتغيير الاستراتيجية المالية، عبر تعديلها وضبطها، وتصحيح المسارات التي لم تكن سليمة فيها.