صدر عن مطبعة دار الأيام كتاب «سيرة في السياسة» للكاتب البحريني عبد الله خليفة الكعبي، وقد جاء الكتاب في أربعمائة وثلاثين صفحة من القطع المتوسط في طبعة أنيقة توشح صفحة الغلاف منها ثماني صور مثلت في انسجامها مع الخلفية صورة أولى عن حقبة من تاريخ البحرين الحديث وملامح التحول فيها عبر مسيرة في البناء الحضاري لا تزال مستمرة إلى يومنا بنسق ملحوظ في شتى مناحي الحياة. والكاتب عبد خليفة الكعبي من مواليد المحرق وحاصل على البكالوريوس والدبلوم العالي في التاريخ، فضلاً عن تجربته الطويلة في المجال التربوي. ويمثل هذا الكتاب باكورة إنتاجه الفكري.
«سيرة في السياسة»! عنوان يضع القارئ من الوهلة الأولى أمام حيرة السؤال عن تركيب العبارات في مكوناته، في العلاقات بينها، وفي دلالاتها، وصلاتها بالمحتوى، فإذا كان لفظ «السيرة» موحياً بجنس من الأدب محيلٍ على ذات الكاتب في انفرادها وتوحدها والتفاف نسيج الخطاب حولها، أو عن سيرة الآخر مدونةً مستقلةً عن الكاتب وموضوعاً منفصلاً عن كيانه فإن لفظ «السياسة» نقيض الذات من حيث اتساع عالمها وانفتاح مجال القول فيها بأوسع مما يحتمله خطاب الذات المفردة. وأما ربط الحرف «في» الذي جعله الكاتب بين اللفظين فلم يزد القارئ إلا حيرة في تحديد نوع العلاقة بينهما، فهل هي سيرة إنسان في عالم السياسة؟ أم هي سيرة للسياسة وأهلها بمعنى التأريخ والتوثيق؟ أم هي تدوين لمسيرة في العمل السياسي؟ أم هي شهادة ذاتٍ تروي سيرتها في علاقة بالسياسة وبالآخر والوطن في عالم متطور دوار؟
الحقيقة أن إشكال العنوان من إشكال الكتاب، وهذا من مواضع الطرافة فيه، إذ يأخذ الكاتب قارئه في تحولات متتابعة لوجهة الخطاب ومساراته بين الذات معبرةً عن نفسها بضمير المتكلم المفرد في تجلٍ صريحٍ للسيرة الذاتية بمفهومها الأولي المتداول، وبين التسجيل الموضوعي لأحداث الواقع والتاريخ حيث تختفي الذات في خضم الوقائع أو تتخفى، وفي المراوحة بين التعبير عن الذات منزلةً في التاريخ، وبين صحائف التاريخ تجلوها الذات تتوالد سمات أخرى للخطاب، فتحمله نحو التقرير الصحافي حيناً، وتنحى به صوب المذكرات الشخصية حيناً آخر، وبين هذا وذاك تطفر سمات الرواية قصاً مسترسلاً ووصفاً دقيقاً متشعباً وأحداثاً وشخوصاً وأمكنة، وتتخللها أو تتقاطع معها ملامح الخطاب الجدلي يقارع بالرأي والحجة، وأساليب النقد والتحليل والتعليق..
للذات في الكتاب حضورها المستمر، لكنه حضور بألوان شتى، هي ذات الكاتب فرداً مفرداً ينحت في الحياة مسيرته البكر بما أوتي من الجهد والعزم والصبر، وهي ذاته الاجتماعية نواةً في شبكة علاقات أسرية يحوطها الوالد والوالدة والإخوة والأخوات والجيران وأهل البحرين، وهي الذات في بعدها الوطني حاملةً من قضايا الوطن مواقف الانتماء والولاء الصادق، متحملةً في ذلك مسؤولياتها أمام جسيم الحدثان يوم «الفزعة» وشد الأزر، وهي ذات الناقد وذات الصحافي والمربي والمثقف والمحلل السياسي والناشط المجتمعي... وهي بعد ذلك كله ذات المؤرخ العارف بوقائع التاريخ وخباياه ومنحنياته الكبرى. ولئن كانت هذه الصور المختلفة تناوب بين البروز والتخفي فإن ذات المؤرخ ظلت حاضرة في حنايا النص كله، فهي تتابع جليل الأمور وبسيطها، وتعالج عويص المسائل وسهلها، وتناقش سير الأحداث طريفها وتالدها متوسلةً خبرة العارف، وصبر المحلل، وشجاعة الباحث، فإذا المسلمات تكتسي ثوب الإشكاليات، وإذا الوثائق والمعاهدات وبيانات المؤتمرات والقمم تنطق بما لم تنطق به من قبل، وتشهد شهادتها الجديدة على العصر والتاريخ.
وللجغرافيا كما للتاريخ في الكتاب مجال، فالكاتب وهو يطارد الأحداث في أبعادها الوطنية والخليجية والعالمية كان يتخير لنفسه من محطات الوقوف ما يسترد به الأنفاس، ويشحذ به الهمة، ويجمع الزاد لمواصلة الرحلة الكبرى، يشد الكاتب رحاله في النص وفي الحياة من البحرين المهد والأصل، فيشرق في الأرض ويغرب، زاده قلم سيال، وعين فاحصة، وذاكرة حافظة لأدق التفاصيل، فتتوالى المدن والبلدان في كتابه صوراً متعاقبةً أو متعالقةً أو متداخلة كما لو كانت في شريط مرئي ينطلق من مهد البدايات باللونين الأسود والأبيض جزيرة المحرق، ثم يتلون شيئاً فشيئاً وهو يستعرض حركة البحرين ناهضةً متوثبةً نحو عهدها الجديد حتى يصل إلى لبنان والأردن وسوريا وفلسطين والسعودية والعراق ومصر وتونس.. ومن هذه الأمصار ما وطئته قدم الكاتب طالباً للعلم أو مرتحلاً أو حاجاً، ومنها ما اخترقه بخياله وروحه متتبعاً أحداث التاريخ، وتصاريف الزمن في قديم الأيام وحديثها. في الكتاب مواقف وآراء ورؤى لا مناص للقارئ من أن يقف عندها، فمن طيات السرد مجملاً ومفصلاً، ومن ثنايا الوصف مطوياً ومنشوراً، ومن نسيج العبارة متصلاً ومنفصلاً، متيناً ومرققاً تظهر مواقف الكاتب من قضايا مجتمعه ووطنه ومحيطه الخليجي ومن العالم من حوله، يصدع بها الكاتب بكل وضوح وشجاعة، فيكسر ما كان قائماً من أوهام المعرفة في الأذهان، ويبني ما كان داثراً من رسوم الحقيقة، ويكشف ما كان مستورا من أطلالها.. وهو لا يروم في كل ذلك أن يكسب وداً، أو يضمن تأييداً، بقدر ما يسعى إلى أن يطور وعياً بحركة العالم جديداً، وأن يغير واقعاً، وأن يبني للأشكال والمعاني والأحداث هياكل جديدةً من معدن الوعي الحاد بسير أحداث التاريخ وخباياه وتحولاته من حولنا.
«سيرة في السياسة» لعبدالله خليفة الكعبي كتاب يبوح بأسراره إذا لازمته، وأمعنت النظر فيه مجدًا، فإذا هو صورةٌ ملحميةٌ لمسيرة الكاتب الإنسان في رحلة بناء الذات ونحت الكيان، يرثها الكاتب عن أبيه المكافح، وعن «ديرته» المقربين، وعن كل كادح من أهل بحرين بين حقول النفط، ومراكب الغوص، وقوافل الرحلات التجارية.. وهو قصيدة في حب البحرين والولاء لها، وهو في النهاية بيان مناهض لتوجهات القوى العالمية السياسية والاقتصادية المتوحشة، وصوت صدقٍ مدافعٌ عن كيان أمة عربية تعصف بها رياح هوجاء، وتجللها ظلمات أبى الكاتب إلا أن يشيم من وراء ظلمائها نوراً قادماً...
* ناقد تونسي وباحث في الأدب والحضارة
«سيرة في السياسة»! عنوان يضع القارئ من الوهلة الأولى أمام حيرة السؤال عن تركيب العبارات في مكوناته، في العلاقات بينها، وفي دلالاتها، وصلاتها بالمحتوى، فإذا كان لفظ «السيرة» موحياً بجنس من الأدب محيلٍ على ذات الكاتب في انفرادها وتوحدها والتفاف نسيج الخطاب حولها، أو عن سيرة الآخر مدونةً مستقلةً عن الكاتب وموضوعاً منفصلاً عن كيانه فإن لفظ «السياسة» نقيض الذات من حيث اتساع عالمها وانفتاح مجال القول فيها بأوسع مما يحتمله خطاب الذات المفردة. وأما ربط الحرف «في» الذي جعله الكاتب بين اللفظين فلم يزد القارئ إلا حيرة في تحديد نوع العلاقة بينهما، فهل هي سيرة إنسان في عالم السياسة؟ أم هي سيرة للسياسة وأهلها بمعنى التأريخ والتوثيق؟ أم هي تدوين لمسيرة في العمل السياسي؟ أم هي شهادة ذاتٍ تروي سيرتها في علاقة بالسياسة وبالآخر والوطن في عالم متطور دوار؟
الحقيقة أن إشكال العنوان من إشكال الكتاب، وهذا من مواضع الطرافة فيه، إذ يأخذ الكاتب قارئه في تحولات متتابعة لوجهة الخطاب ومساراته بين الذات معبرةً عن نفسها بضمير المتكلم المفرد في تجلٍ صريحٍ للسيرة الذاتية بمفهومها الأولي المتداول، وبين التسجيل الموضوعي لأحداث الواقع والتاريخ حيث تختفي الذات في خضم الوقائع أو تتخفى، وفي المراوحة بين التعبير عن الذات منزلةً في التاريخ، وبين صحائف التاريخ تجلوها الذات تتوالد سمات أخرى للخطاب، فتحمله نحو التقرير الصحافي حيناً، وتنحى به صوب المذكرات الشخصية حيناً آخر، وبين هذا وذاك تطفر سمات الرواية قصاً مسترسلاً ووصفاً دقيقاً متشعباً وأحداثاً وشخوصاً وأمكنة، وتتخللها أو تتقاطع معها ملامح الخطاب الجدلي يقارع بالرأي والحجة، وأساليب النقد والتحليل والتعليق..
للذات في الكتاب حضورها المستمر، لكنه حضور بألوان شتى، هي ذات الكاتب فرداً مفرداً ينحت في الحياة مسيرته البكر بما أوتي من الجهد والعزم والصبر، وهي ذاته الاجتماعية نواةً في شبكة علاقات أسرية يحوطها الوالد والوالدة والإخوة والأخوات والجيران وأهل البحرين، وهي الذات في بعدها الوطني حاملةً من قضايا الوطن مواقف الانتماء والولاء الصادق، متحملةً في ذلك مسؤولياتها أمام جسيم الحدثان يوم «الفزعة» وشد الأزر، وهي ذات الناقد وذات الصحافي والمربي والمثقف والمحلل السياسي والناشط المجتمعي... وهي بعد ذلك كله ذات المؤرخ العارف بوقائع التاريخ وخباياه ومنحنياته الكبرى. ولئن كانت هذه الصور المختلفة تناوب بين البروز والتخفي فإن ذات المؤرخ ظلت حاضرة في حنايا النص كله، فهي تتابع جليل الأمور وبسيطها، وتعالج عويص المسائل وسهلها، وتناقش سير الأحداث طريفها وتالدها متوسلةً خبرة العارف، وصبر المحلل، وشجاعة الباحث، فإذا المسلمات تكتسي ثوب الإشكاليات، وإذا الوثائق والمعاهدات وبيانات المؤتمرات والقمم تنطق بما لم تنطق به من قبل، وتشهد شهادتها الجديدة على العصر والتاريخ.
وللجغرافيا كما للتاريخ في الكتاب مجال، فالكاتب وهو يطارد الأحداث في أبعادها الوطنية والخليجية والعالمية كان يتخير لنفسه من محطات الوقوف ما يسترد به الأنفاس، ويشحذ به الهمة، ويجمع الزاد لمواصلة الرحلة الكبرى، يشد الكاتب رحاله في النص وفي الحياة من البحرين المهد والأصل، فيشرق في الأرض ويغرب، زاده قلم سيال، وعين فاحصة، وذاكرة حافظة لأدق التفاصيل، فتتوالى المدن والبلدان في كتابه صوراً متعاقبةً أو متعالقةً أو متداخلة كما لو كانت في شريط مرئي ينطلق من مهد البدايات باللونين الأسود والأبيض جزيرة المحرق، ثم يتلون شيئاً فشيئاً وهو يستعرض حركة البحرين ناهضةً متوثبةً نحو عهدها الجديد حتى يصل إلى لبنان والأردن وسوريا وفلسطين والسعودية والعراق ومصر وتونس.. ومن هذه الأمصار ما وطئته قدم الكاتب طالباً للعلم أو مرتحلاً أو حاجاً، ومنها ما اخترقه بخياله وروحه متتبعاً أحداث التاريخ، وتصاريف الزمن في قديم الأيام وحديثها. في الكتاب مواقف وآراء ورؤى لا مناص للقارئ من أن يقف عندها، فمن طيات السرد مجملاً ومفصلاً، ومن ثنايا الوصف مطوياً ومنشوراً، ومن نسيج العبارة متصلاً ومنفصلاً، متيناً ومرققاً تظهر مواقف الكاتب من قضايا مجتمعه ووطنه ومحيطه الخليجي ومن العالم من حوله، يصدع بها الكاتب بكل وضوح وشجاعة، فيكسر ما كان قائماً من أوهام المعرفة في الأذهان، ويبني ما كان داثراً من رسوم الحقيقة، ويكشف ما كان مستورا من أطلالها.. وهو لا يروم في كل ذلك أن يكسب وداً، أو يضمن تأييداً، بقدر ما يسعى إلى أن يطور وعياً بحركة العالم جديداً، وأن يغير واقعاً، وأن يبني للأشكال والمعاني والأحداث هياكل جديدةً من معدن الوعي الحاد بسير أحداث التاريخ وخباياه وتحولاته من حولنا.
«سيرة في السياسة» لعبدالله خليفة الكعبي كتاب يبوح بأسراره إذا لازمته، وأمعنت النظر فيه مجدًا، فإذا هو صورةٌ ملحميةٌ لمسيرة الكاتب الإنسان في رحلة بناء الذات ونحت الكيان، يرثها الكاتب عن أبيه المكافح، وعن «ديرته» المقربين، وعن كل كادح من أهل بحرين بين حقول النفط، ومراكب الغوص، وقوافل الرحلات التجارية.. وهو قصيدة في حب البحرين والولاء لها، وهو في النهاية بيان مناهض لتوجهات القوى العالمية السياسية والاقتصادية المتوحشة، وصوت صدقٍ مدافعٌ عن كيان أمة عربية تعصف بها رياح هوجاء، وتجللها ظلمات أبى الكاتب إلا أن يشيم من وراء ظلمائها نوراً قادماً...
* ناقد تونسي وباحث في الأدب والحضارة