تحيط بمعتقل الرشيد العراقي بيوت الأهالي، وأتذكر بأنهم كانوا في أول أغسطس 1990 يهللون عندما حضرنا أول مرة، فقد حسبوا أننا من الأسرى العراقيين، الذين كانت إيران تطلقهم في عمليات تبادل الأسرى. وقد عشنا كأسرى كويتيين في مبنى متهالك، ورثناه من الإيرانيين الذين قالوا لنا عندما وصلنا: أنتم أدخلتمونا إلى المعتقل، والآن نحن سنخرج وأنتم ستدخلون مكاننا، متشمتين بدعم الخليج لصدام في حربه ضد إيران. ثم دخلنا في ظروف الاعتقال القاسية، فالماء قليل وطعامنا من العدس وخبز الشعير اليابس.
وفي أحد أيام أكتوبر من نفس العام، كنت أجلس مع مجموعة من الأسرى الكويتيين، لا نتعدى العشرة رجال في «مستوع» أو «بركس» سموه ما شئتم، تتسلل إلينا خطوط الضوء المحملة بالغبار من شقوق في باب كبير ينفتح بشكل منزلق إلى الجهتين مرة واحدة في اليوم. كنا نتحدث عن طرق التعامل مع الأمراض التي غزت أغلب أجساد وعيون وأسنان الأسرى، وأتذكر أن أحدهم قال «أبو قشاش» علاجه الدهن.
قال آخر: ما هو «أبو قشاش»؟!
وسأل ثالث: الدهن تقصد أن ندهن أجسادنا!
أكمل حمود حديثه: هو مرض يسميه أهلنا الأولون «أبو قشاش»، لكن أسبابة ليست خارجية، «أبو قشاش» سببه فقدان وجباتنا الغذائية للدهن وكان يصيب الناس من الفقر، وقلة أكل اللحم والشحم. فتصاب أسنانهم برائحة كريهة تخرج من فمهم، وتتقرح جلودهم. كنت أستمع وفي رأسي تدور المعاملة القاسية التي يتعرض لها الأسرى وكأن ذلك لم يكفِ فنصاب بمرض اسمه الكريه «أبو قشاش».
قلت في خاطري «أبو قشاش»
كما مر المتحدث في قصته على كلمة «أبو قشاش».
وفي نفس اللحظة كان صديقي عبدالهادي يقف في الطرف الآخر من البركس متكئاً على الحائط ويؤشر لي ملوحاً بيده: تعال أبيك
قلت: خلني أسمع سالفة «أبو قشاش».
قال: أبو شنهو؟
قلت: «أبو قشاش».
قال: تعال عندي موضوع أهم.
وقفت وسرت باتجاهه، وفي نفس اللحظة التي وصلت فيها لمنتصف الـ15 متراً، وهي عرض البركس متجهاً للطرف المقابل، حيث يقف عبدالهادي، انطلقت أصوات عالية، مع تفجر صراخ جنود، ثم صوت صرير الباب وهو يفتح فمه الحديدي كل شفة إلى الجهة الأخرى.
تجمدت: هل أعود إلى مكاني عند سالفة «أبو قشاش»؟ أم أستمر حيث يريدني عبدالهادي في سالفة! عشرين جندياً يتحركون للداخل، وبإيعازات من قائدهم والبنادق في أيديهم فتحوا الباب في غير وقت فتحه، واقتحموا المكان بالصراخ. لم يعد بإمكاني الرجوع، وأنا أشاهد الجنود يحيطون بالعشرة الذين كنت جالساً معهم قبل برهة، يركلونهم، يشتمونهم كعادتهم، يأمرونهم بالوقوف ليحيطوا بهم كالسوار.
ركضت مبتعداً عنهم، إلى عبدالهادي. وأنا أنظر إلى مجموعة «أبو قشاش» يدفعون إلى خارج البركس وتقفل الأبواب بنفس سرعة فتحها.
تعالت همهمات الـ650 معتقلاً الباقين، وتحولت إلى أصوات أنين.
إنا لله وإنا إليه راجعون الله يستر عليهم، واندفع البعض من رفاقنا ينظرون عبر الفتحات الضيقة إلى الجنود، وهم يقودون العشرة بعيداً إلى غرف ومكاتب يتم فيها التحقيق والتعذيب القاسي، والإعدامات العشوائية.
الله لا يوفقهم، ووضع عبدالهادي يده على كتفي وهو يقول: فكك الله، الله يفك عوق ربعنا.
قلت وأنا في حالة صدمة: لماذا استدعيتني، ماذا كنت تريد؟
قال: تصدق نسيت.
لم يكن مهماً أن أعرف ماذا أراد، بقدر امتناني للحظ الطيب الذي جعله يستدعيني. وبعد أيام وصلنا الخبر أن صدام كان ينفي وجود أسرى ومعتقلين إلا عدداً قليلاً جداً، وأن العشرة «المبشرين بالموت» كما توهمنا، قد سلموا للجنة الصليب الأحمر الدولية، التي شكرت صدام على البادرة، وأخذتهم وأطلق سراحهم لأهلهم في الكويت. وسلموا من مرض «أبو قشاش» فيما مازلت أترجى عبدالهادي أن يحاول أن يتذكر لماذا استدعاني؟ لماذا وقفت وسرت إليه ليدخل الملائكة العراقيون ويطلقون سراح «المبشرين بالحرية» وأبقى سبعة أشهر أعاني من «أبو قشاش»!
* كاتب وأكاديمي كويتي
{{ article.visit_count }}
وفي أحد أيام أكتوبر من نفس العام، كنت أجلس مع مجموعة من الأسرى الكويتيين، لا نتعدى العشرة رجال في «مستوع» أو «بركس» سموه ما شئتم، تتسلل إلينا خطوط الضوء المحملة بالغبار من شقوق في باب كبير ينفتح بشكل منزلق إلى الجهتين مرة واحدة في اليوم. كنا نتحدث عن طرق التعامل مع الأمراض التي غزت أغلب أجساد وعيون وأسنان الأسرى، وأتذكر أن أحدهم قال «أبو قشاش» علاجه الدهن.
قال آخر: ما هو «أبو قشاش»؟!
وسأل ثالث: الدهن تقصد أن ندهن أجسادنا!
أكمل حمود حديثه: هو مرض يسميه أهلنا الأولون «أبو قشاش»، لكن أسبابة ليست خارجية، «أبو قشاش» سببه فقدان وجباتنا الغذائية للدهن وكان يصيب الناس من الفقر، وقلة أكل اللحم والشحم. فتصاب أسنانهم برائحة كريهة تخرج من فمهم، وتتقرح جلودهم. كنت أستمع وفي رأسي تدور المعاملة القاسية التي يتعرض لها الأسرى وكأن ذلك لم يكفِ فنصاب بمرض اسمه الكريه «أبو قشاش».
قلت في خاطري «أبو قشاش»
كما مر المتحدث في قصته على كلمة «أبو قشاش».
وفي نفس اللحظة كان صديقي عبدالهادي يقف في الطرف الآخر من البركس متكئاً على الحائط ويؤشر لي ملوحاً بيده: تعال أبيك
قلت: خلني أسمع سالفة «أبو قشاش».
قال: أبو شنهو؟
قلت: «أبو قشاش».
قال: تعال عندي موضوع أهم.
وقفت وسرت باتجاهه، وفي نفس اللحظة التي وصلت فيها لمنتصف الـ15 متراً، وهي عرض البركس متجهاً للطرف المقابل، حيث يقف عبدالهادي، انطلقت أصوات عالية، مع تفجر صراخ جنود، ثم صوت صرير الباب وهو يفتح فمه الحديدي كل شفة إلى الجهة الأخرى.
تجمدت: هل أعود إلى مكاني عند سالفة «أبو قشاش»؟ أم أستمر حيث يريدني عبدالهادي في سالفة! عشرين جندياً يتحركون للداخل، وبإيعازات من قائدهم والبنادق في أيديهم فتحوا الباب في غير وقت فتحه، واقتحموا المكان بالصراخ. لم يعد بإمكاني الرجوع، وأنا أشاهد الجنود يحيطون بالعشرة الذين كنت جالساً معهم قبل برهة، يركلونهم، يشتمونهم كعادتهم، يأمرونهم بالوقوف ليحيطوا بهم كالسوار.
ركضت مبتعداً عنهم، إلى عبدالهادي. وأنا أنظر إلى مجموعة «أبو قشاش» يدفعون إلى خارج البركس وتقفل الأبواب بنفس سرعة فتحها.
تعالت همهمات الـ650 معتقلاً الباقين، وتحولت إلى أصوات أنين.
إنا لله وإنا إليه راجعون الله يستر عليهم، واندفع البعض من رفاقنا ينظرون عبر الفتحات الضيقة إلى الجنود، وهم يقودون العشرة بعيداً إلى غرف ومكاتب يتم فيها التحقيق والتعذيب القاسي، والإعدامات العشوائية.
الله لا يوفقهم، ووضع عبدالهادي يده على كتفي وهو يقول: فكك الله، الله يفك عوق ربعنا.
قلت وأنا في حالة صدمة: لماذا استدعيتني، ماذا كنت تريد؟
قال: تصدق نسيت.
لم يكن مهماً أن أعرف ماذا أراد، بقدر امتناني للحظ الطيب الذي جعله يستدعيني. وبعد أيام وصلنا الخبر أن صدام كان ينفي وجود أسرى ومعتقلين إلا عدداً قليلاً جداً، وأن العشرة «المبشرين بالموت» كما توهمنا، قد سلموا للجنة الصليب الأحمر الدولية، التي شكرت صدام على البادرة، وأخذتهم وأطلق سراحهم لأهلهم في الكويت. وسلموا من مرض «أبو قشاش» فيما مازلت أترجى عبدالهادي أن يحاول أن يتذكر لماذا استدعاني؟ لماذا وقفت وسرت إليه ليدخل الملائكة العراقيون ويطلقون سراح «المبشرين بالحرية» وأبقى سبعة أشهر أعاني من «أبو قشاش»!
* كاتب وأكاديمي كويتي