د. أمل الجودر

مشهد يتكرر في كل عام مع حلول هذا الشهر الفضيل ألا وهو التهافت المحموم على شراء وتخزين المواد الغذائية بالرغم من كل الدعوات باستثمار هذا الشهر للتخلص من تلك الشحوم المكدسة.

والعجيب في الأمر أن الإسراف في الشراء لا يقتصر على الطعام فقط بل يمتد ليشمل الملابس والأواني المنزلية والأثاث، والأدهى من ذلك عادة القرقاعون الشعبية البسيطة تطورت وأصبحت عبئاً مالياً على العائلات ووسيلة تفاخر ومظاهر لا احتفالاً شعبياً بسيطاً.



وللأمانة نقول، إن الجميع قد ساهم بشكل أو بآخر في تشكيل هذه الظاهرة. فما يأتي رمضان إلا ونرى الحركة التجارية لدى التجار تضاعفت، والإعلانات التجارية راجت، ووصفات الطبخ على كل القنوات التلفزيونية وصفحات الصحف، وعروض التخفيضات التي شملت كل احتياجات الفرد والأسرة إلا وتم عرضها في هذا الشهر، فلم تُترك سيارة ولا هاتف ولا أثاث ولا غيره، وبغض النظر عن علاقته المباشرة برمضان أو لا. ناهيك عن عروض القروض للبنوك.

يعد رمضان شهراً روحياً ومعنوياً قبل أن يكون بدنياً ومادياً. وعليه يجب أن نستشعر بروح القرآن وآدابه وأن نلتزم بتعاليم الله وبسنن رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر الفضيل. تأملوا معي قول الله تعالى في الآية 29 من سورة الإسراء "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً"، فهل نحن كذلك؟ وتأملوا القاعدة الصحية في قوله تعالى في الآية 31 من سورة الأعراف "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين"، فمن منا لا يود أن يكون ممن يحبهم الله؟ فكيف بنا ونحن نسرف في الشراء فندخل في مجموعة ممن لا يحبهم الله والعياذ بالله من ذلك؟!

فإن كان الله قد أنعم عليك أفلا يجب عليك تذكر الفقراء والمحتاجين من داخل البلاد وخارجها من دول عربية وإسلامية قريبة وبعيدة، فتمد لهم يد العون والمساعدة. ولنفكر قليلاً في قول رسول الله عليه أفضل الصلوات "ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا بد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه"، "رواه الترمذي". أين نحن اليوم من تعاليم ديننا الحنيف؟ كم منا من يأكل ويترك مجالاً للشرب ولمرور الهواء والتنفس؟

والله لو التزمنا بهذا الحديث فقط فعلاً وسلوكاً وأصبح نمطاً حياتياً لدينا، لقلّت نسبه انتشار السمنة وزيادة الوزن وأمراض السكري والقلب وارتفاع الكولسترول بلا شك.

إن للصوم أثرا عميقا على الصحة الشاملة بأبعادها الأربعة البدنية والنفسية والاجتماعية والروحية، فعلى مستوى البدن يساهم الصوم في تخليص الجسم من الشحوم المتراكمة ويقي ويعالج السمنة ويتم التهام الخلايا غير الطبيعية والمريضة فيساعد على الشفاء من أمراض الجهاز المناعي، وهو فرصة لإعطاء المعدة والأمعاء والكلى والدورة الدموية فترات من الراحة. وهو فرصة مواتية لمن يريد التوقف عن التدخين فبإمكانه اختيار هذا الشهر للبدء في ذلك، فمادام استطاع التوقف نهارا فبإمكانه المواصلة وبمنعه للسمنة والمساهمة في التوقف عن التدخين يكون قد ساهم في الوقاية من الأمراض المزمنة غير المعدية كأمراض القلب والسكرى والسرطان.. إلخ. وعلى الجانب النفسي فإن الصوم يقرب الإنسان إلى الله تعالى ويكثر من النوافل وقراءة القرآن مما يجعله يشعر بالأمن النفسي وتمتلئ نفسه البشرية بالراحة والاطمئنان في عصر أصبح القلق والتوتر سمة من سماته. وبهذا يساهم الصيام في منع التأثيرات السلبية الناتجة عن القلق والتوتر. وعلى الصعيد الاجتماعي يساهم الصيام في تجميع أفراد العائلة الواحدة على مائدة تناول الإفطار والتي قلما تجتمع في خلافه على وجبة واحدة بسبب اختلاف ظروف كل فرد منهم. فتقوى الروابط الاجتماعية بين أفراد العائلة الواحدة.

وعلى الصعيد الروحي فالصوم يسمو بالروح لتستحضر معنى الحياة والغرض منها ويذكرنا بدورنا في الحياة الدنيا كخلفاء لله في هذه الأرض فنتعاون على البر والتقوى ونرتقي بأخلاقنا ومبادئنا الإسلامية لنكون نموذجا وقدوة لغيرنا حتى نكون شهداء على غيرنا من الأمم كما أرادنا الله سبحانه وتعالى.

* خبير ومدرب تعزيز صحة وجودة الحياة