الحرة

بعدما رأى مدخوله يتضاءل تدريجيا على وقع تدهور الليرة التركية المتداولة في شمال سوريا، بدأ المدرس محمد الدبك العمل بدوام جزئي، ويشارك مع زملائه في إضرابات لحث السلطات المحلية على تحسين رواتبهم.

ويقول محمد (33 عاماً) وهو أب لطفل في مدينة الباب الخاضعة لسيطرة القوات التركية وفصائل سورية موالية لها، لوكالة فرانس برس "كان راتبي عام 2017 يساوي 160 دولارا، أما اليوم فبات يعادل 50 دولارا، ما يكفيني فقط لدفع إيجار المنزل".

ويوضح "أثر انهيار العملة التركية علي سلبا بدرجة كبيرة، وجعلني ألجأ إلى عمل آخر"، في مكتبة لبيع القرطاسية والكتب المدرسية، ما يوفر له مدخولا بقيمة أربعين دولارا تقريبا.

ومنذ منتصف يونيو الماضي، بدأت السلطات المحلية في مناطق واسعة في شمال وشمال غرب سوريا، تحظى فيها أنقرة بنفوذ أو تواجد عسكري، اعتماد الليرة التركية في التداول اليومي كبديل عن الليرة السورية، التي شهدت تدهورا غير مسبوق في قيمتها آنذاك.

لكن منذ مطلع العام، خسرت الليرة التركية أكثر من 45 في المئة من قيمتها على وقع أزمة اقتصادية، ثلاثون في المئة منها خلال نوفمبر وحده. ويتجاوز سعر الصرف حاليا عتبة 13 ليرة مقابل الدولار، بعدما كان قرابة ثماني ليرات قبل الأزمة.

وبعد ثلاث عمليات عسكرية شنتها بين عامي 2016 و2018 مع فصائل سورية موالية لها، سيطرت أنقرة على مناطق واسعة بعد طرد تنظيم داعش أو المقاتلين الأكراد منها.

ومع تسارع تدهور العملة التركية، بدأ محمد وزملاؤه المدرسون توجيه رسائل إلى إدارات المدارس في مدينة الباب ومحيطها، مطالبين بتحسين رواتبهم. ثم لجأوا الى إضراب استمر ثمانية أيام منذ منتصف أكتوبر.

بعدها، عاودوا التدريس أملا بالتوصل إلى حل، لكن من دون جدوى. وباتوا يمتنعون حاليا عن التدريس ليومين أسبوعيا في محاولة لتجنب العودة إلى "الإضراب المفتوح وتوقف التدريس".

ويحتاج محمد إلى نحو مئتي دولار كمصروف شهريا، لتأمين احتياجاته الرئيسية ودفع بدلات إيجار المنزل والكهرباء والإنترنت والمواصلات، أي ضعف المبلغ الذي يجنيه. ويحاول قدر الإمكان مواءمة احتياجاته مع مدخوله الحالي.

"وزن الخبز ينخفض"

إلى جانب رعايتها لمجالس محلية أنشأتها لإدارة مناطق نفوذها في الشمال السوري والتواجد العسكري لقواتها، ضاعفت تركيا استثماراتها في قطاعات عدة مثل الصحة والتعليم. وتتواجد في تلك المناطق مكاتب بريد واتصالات وتحويل أموال تركية ومدارس تعلم باللغة التركية. وتتبع المجالس المحلية للولايات التركية القريبة مثل غازي عنتاب وكيليس وشانلي أورفا.

جراء هذا الترابط، انعكس انهيار الليرة التركية بسرعة على مناطق نفوذ أنقرة لناحية تراجع قدرة السكان الشرائية وارتفاع أسعار السلع، خصوصا المستوردة من تركيا.

وبحسب تقرير للأمم المتحدة في نهاية أغسطس، فإن "91 في المئة من السكان العاملين في شمال غرب سوريا هم من أسر تعيش فقرا مدقعا، ما يؤشر إلى ضعف وضع الاقتصاد المحلي".

وأوردت نشرة "سيريا ريبورت" الاقتصادية الإلكترونية أن المنطقة شهدت خلال الشهر الماضي "تصاعدا متسارعا في سعر الخبز وسلع أخرى" فيما بلغت "القدرة الشرائية للسكان أدنى مستوياتها".

وعمدت السلطات المحلية إلى خفض وزن كيس الخبز أربع مرات منذ أكتوبر، من 650 إلى 450 غراما، وفق المصدر ذاته، فيما رفعت أسعار المشتقات النفطية، بينها أسطوانة الغاز المنزلي من 127 إلى 137 ليرة تركية.

وكان سعر أسطوانة الغاز 86 ليرة تركية خلال سبتمبر.

وتقدر الأمم المتحدة أن نحو 12,8 مليون شخص في سوريا يعانون من انعدام الأمن الغذائي، متوقعة تفاقم الوضع سوءا خلال الأشهر المقبلة.

"ننام جياعا"

وانعكس تدهور قيمة الليرة التركية، وفق ما يوضح نائب رئيس غرفة التجارة والاقتصاد شمال حلب، أحمد أبو عبيدة، لفرانس برس، على الحركة التجارية بمجملها "نتيجة التضخم وازدياد أسعار البضائع التركية عموما" المعتمدة في المنطقة.

ويقدر أبو عبيدة الذي يملك شركة مواد غذائية تستورد بضائعها من تركيا، انخفاض نسبة المبيعات "إلى النصف" خلال شهر، وتراجع عدد الزبائن إلى النصف أيضا.

ويكتفي المواطن حاليا، على حد قوله، بشراء "الضروريات من مواد أساسية واحتياجاته اليومية من غذاء ودواء وتدفئة".

لكن توفير المستلزمات الرئيسية بات ترفا لا يقوى كثر على توفيره، على غرار النازحة هناء (36 عاما) التي تقيم في مخيم ترحين في ريف مدينة الباب، ويقع على عاتقها الاهتمام بأطفالها الخمسة منذ مقتل زوجها في غارة جوية قبل خمس سنوات.

واعتادت السيدة أن تجني من خلال عملها في حصاد القمح وقطف موسم البطاطس عشرين ليرة تركية يوميا خلال فصل الصيف، وهو ما كان يكفي لسد رمق أطفالها.

لكن على وقع تدهور قيمة الليرة وتراجع وتيرة عملها مع بدء فصل الشتاء، بات توفير المبلغ الذي يعادل حاليا أقل من دولار ونصف الدولار مهمة صعبة.

وفي أيام لا تعمل فيها في قطف مواسم الشمندر واللفت، تعتاش من مساعدات بسيطة.

وتشرح "سابقا، كنت أؤمن مستلزمات وجبة طعام على الأقل". لكنها اليوم تجد نفسها مضطرة لجمع الحطب من أجل إشعال النار للتدفئة وإعداد ما تيسر من طعام داخل الخيمة شبه الخالية من أي مقتنيات.

وتقول بغصة "جل ما أحلم به هو أن أحصل على 50 ليرة في اليوم لأطعم أولادي لئلا يناموا جياعا".