تحل يوم غدٍ، الأربعاء، الذكرى الثالثة والعشرون لصدور ميثاق العمل الوطني، والتي توافق الرابع عشر من فبراير من كل عام، لتستعيد الذاكرة الوطنية من خلالها الاحتفال بواحدة من أعظم اللحظات في تاريخ مملكة البحرين، فالميثاق الذي جاء بمبادرة سامية من حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ملك البلاد المعظم حفظه الله ورعاه، تلاقت مع إرادة وطنية جامعة مخلصة، فقد شكّل الميثاق اللبنة الأولى التي قامت على إثرها ركائز الدولة العصرية، وكان نقطة انطلاقة حقيقية لمملكة حديثة.

ولعل أهم ما يميز ميثاق العمل الوطني أنه رسم مستقبلًا باهرًا للوطن، بما تضمنه من نصوص ورؤى تحدد المقومات الرئيسية للمجتمع سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وعلاقات مملكة البحرين الخارجية، فضلاً عن أنه شكّل أيضًا خطة عمل مستـقبلية للبلاد، ساعدت، هي وما تلاها، من خطوات في ترسيخ دعائم قوية لدولة القانون والمؤسسات.

ويعتبر ميثاق العمل الوطني، كما وصفه حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم حفظه الله ورعاه، إنجازًا في طريق الحرية والديمقراطية والنمو الاقتصادي والاجتماعي من أجل مستقبل مملكة البحرين، فكانت مبادرة جلالته، أيده الله، نقلة حضارية واسعة، تلتها خطوات أكثر تطورًا، وفي مقدمتها التعديلات الدستورية 2002، والتي رسخت لدعائم الدولة العصرية والمتقدمة.

وقد تلاقت الإرادة الشعبية مع المبادرة الملكية السامية، وذلك بالتصويت على ميثاق العمل الوطني بنسبة 98.4%، ليقدم شعب البحرين في ذلك اليوم عام 2001 ملحمة وطنية بامتياز، في مشهد خالد يعكس ذروة التطور الديمقراطي، ويؤكد الولاء والانتماء الوطني الخالص، ولتدخل مملكة البحرين بعد ذلك مرحلة جديدة في مسيرتها على طريق النهضة والتطور الشامل، ولتتوالي خطوات التطور الديمقراطي، وصولاً إلى ما نشهده اليوم من نموذج للدولة العصرية والمتقدمة.

فميثاق العمل الوطني وضع أسس الدولة التي تحترم وتصون حقوق الإنسان وكرامته؛ المؤمنة بأهمية الإرادة والمشاركة الشعبية وتعمل على تحقيق الرفاه الاجتماعي وتحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين، فأصبحت مملكة البحرين بفضل ذلك نموذجًا يحتذى به في التنمية الشاملة التي تعتمد على سواعد أبنائها والاهتمام بهم باعتبارهم الثروة الحقيقية للوطن.

وتنبثق الأهمية التاريخية الكبرى لميثاق العمل الوطني من مضامينه، فهذه الوثيقة اشتملت على العديد من القواعد والركائز التي شكّلت حاضر ومستقبل الوطن كما يرجوه حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم حفظه الله ورعاه وشعب البحرين، وشكّلت إطارًا هامًا للعمل الوطني الذي تنفذه الحكومة برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء حفظه الله، وهنا يمكن استذكار مجموعة من الأطر والتغييرات التي جاء بها ميثاق العمل الوطني، والتي كان لها أثرها في حاضر ومستقبل البلاد.

وميثاق العمل الوطني أرسى دعائم نهج ديمقراطي متين، وهو ما تجلى من خلال دستور 2002 وتعديلاته، والتي أُنشئت من خلالها العديد من المؤسسات الفاعلة، ومنها المحكمة الدستورية العليا، وديوان الرقابة المالية والإدارية، وتبلور من خلالها أيضًا هيكلًا محددًا للفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وسيادة القانون والتأكيد على منح الشعب حق المشاركة في الشؤون العامة، لتكتمل مقومات دولة عصرية استكملت كل أطرها السياسية والدستورية للتـفاعل مع كل المستجدات المحلية والإقليمية والدولية.

وحدد الميثاق بوضوح التوجيهات الراسخة لمملكة البحرين فيما يتعلق بعروبتها وسيادتها وكيانها وأراضيها ومياهها الإقليمية التي هي غير قابلة للتـفريط فيها، وانطلقت مملكة البحرين بعد ذلك لتمارس، بتوجيهات جلالة الملك المعظم حفظه الله ورعاه، دورًا دوليًا إنسانيًا نبيلاً، وتبنت سياسة خارجية ودبلوماسية فاعلة تقوم على تعزيز التعاون والشراكة من الدول الشقيقة والصديقة، والمشاركة في جهود نشر الأمن والاستقرار والسلام والتعايش والإخاء بين البشر في كل مكان، وأصبحت عنصرًا فاعلاً في كل الجهود الرامية إلى مواجهة أفكار التطرف والإرهاب والعنصرية والجريمة المنظمة.

كما شكّل الميثاق ركيزة أساسية انطلقت منها مملكة البحرين لتواصل دورها الأساسي كعضو فعال في المجتمع الدولي والإسلامي والعربي، وذلك من خلال عضويتها في منظمة الأمم المتحدة ووكالاتها ومجالسها المتخصصة، إلى جانب عضويتها في جامعة الدول العربية ومجلس التعاون لدول الخليج العربـية ومنظمة التعاون الإسلامي، وغيرها من التكتلات والتحالفات الإقليمية والدولية، منطلقة في ذلك من مبادئها الراسخة بدعم الحقوق والقضايا العادلة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ودعم منظومة العمل والأمن الجماعي الدولي من أجل رفاه البشرية ونماءها.

كما تضمن الميثاق قواعد راسخة للحفاظ على الحريات العامة والخاصة، وصون الحريات ومنها حريات الرأي التعبير وحرية العقيدة، وكفلت المساواة بين المواطنين والعدالة وتكافؤ الفرص وحقوق الطفل والمرأة، ووضعت الأطر التي تحمي الملكية الشخصية، وعززت ذلك كله بإطار دستوري وقانوني عصري يضعها في مصاف الدول المتقدمة.

وشكل البُعد الاجتماعي مكونًا مهمًا في ميثاق العمل الوطني، من خلال تركيزه على أهمية دور الأسرة في التنشئة الصحيحة باعتبارها نواة المجتمع والأساس الذي عليه تتكون منظومة الأخلاق، كما اهتم الميثاق بأهمية دور العمل والتعليم والثقافة والإعلام والعلوم والفنون كمرتكزات أساسية لتحقيق التطور والتقدم المنشود، إيمانًا بأن الوصول إلى ذروة التقدم تحتاج إلى سواعد جميع أبناء الوطن من مفكرين وعلماء ومثقفين وفنانين وعاملين في المؤسسات العامة والخاصة والأهلية المختلفة، وهو ما حرصت المملكة على ضمانته ورعايته وتشجيعه، فتبوأت صدارة تقارير التنمية البشرية لسنوات عديدة متتالية، ونال أبناؤها ومؤسساتها تكريمات وجوائز في العديد من المحالف الإقليمية والدولية.

لقد حقق ميثاق العمل الوطني نقلة حضارية في الجانب الخاص بالحياة البرلمانية في مملكة البحرين، إذ كانت بداية العمل بنظام المجلسين في السلطة التشريعية، أحدهما، مجلس منـتخب انتخابًا حرًا مباشرًا يتولى المهام التـشريعية هو مجلس النواب، ومجلس آخر معيّن وهو مجلس الشورى الذي يضم أصحاب الخبرة والاختصاص للاستعانة بآرائهم، وهو النظام المعمول به في العديد من الدول الديمقراطية العريقة، والذي أثبتت التجارب أنه أكثر فاعلية في تحقيق طموحات الدول في التنمية لصالح شعوبها، ويضمن لها الاستـقرار والرخاء.

ووضع الميثاق قاعدة متينة للتطور الاقتصادي في مملكة البحرين وصولاً إلى التنمية الشاملة، حيث ركز على أهمية مبدأ الحرية الاقتصادية وحرية رأس المال ودعم دور القطاع الخاص، والحفاظ على العدالة الاقتصادية والاجتماعية والتوازن بين أطراف الإنتاج، وهو الأمر الذي أسهم في تحسن بيئة الاقتصاد والاستثمار في مملكة البحرين وأصبحت مركزًا ماليًا واستثماريًا رائدًا، وقد تعزز ذلك من خلال برامج عمل الحكومة الموقرة المتتالية، والتي حرصت على تقديم المزيد من الحوافز التي تشجع الاستثمار، والتوسيع في إنشاء المشروعات التنموية الرائدة في المجالات المختلفة الصحية والتعليمية والبنية التحتية والطرق والنقل والاتصالات وغيرها.

إن مناسبة الاحتفال بذكرى ميثاق العمل الوطني كل عام، هي لحظة فخر واعتزاز بيوم خالد ومشرق في تاريخ مملكة البحرين، يوم شهد أعلى مراتب التلاحم الوطني، وكانت بداية الطريق لمسيرة متواصلة من العمل الوطني الجاد والمخلص للنهوض بالوطن، حتى أضحت مملكة البحرين دولة عصرية يشار إليها بالإعجاب والإشادة بما تحققه من نمو وازدهار، ولتترسخ مكانتها كواحة للسلام وموئلا للمحبة والتعايش والإخاء، ولتتواصل ريادتها ورفعتها في ظل القيادة الحكيمة لجلالة الملك المعظم حفظه الله ورعاه، وبمساندة من صاحب السمو الملكي ولي العهد رئيس مجلس الوزراء حفظه الله، وبعطاءات أبنائها الذين يضربون أروع الأمثلة في الإخلاص والتفاني في سبيل نماء الوطن وازدهاره.