وكالات

في الأيام التي أعقبت هجمات الحادي والعشرين من سبتمبر (أيلول) 2001، كان مكتب التحقيقات الفيدرالية «إف بي آي» يزدحم بالعمل كخلية من النحل، كان معظم الخاطفين قد قضوا بعضًا من الوقت في جنوب فلوريدا، وكان عملاء الاستخبارات عاكفين على البحث في تلك المنطقة، لذلك حين استدعى أحد الرؤساء لوسي مونتيس إلى مكتبه لم تشعر بأي قدر من الشك.

كانت لوسي إحدى عملاء «إف بي آي» المخضرمين، عملت مترجمة ومحللة في «مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي)»، وكان لها دور كبير في الكشف عن شبكة من الجواسيس الأمريكيين العاملين لصالح كوبا، العدو اللدود لواشنطن، كما كان شقيقها لويس، عميلًا خاصًا بمكتب التحقيقات الفيدرالي «إف بي آي» كذلك، كما عمل زوجها عميلًا في الجهاز نفسه، بالإضافة إلى ذلك كانت شقيقتها آنا مونتيس ذات منصب رفيع يتعلق بالملف الكوبي في جهاز الاستخبارات العسكرية الأمريكية المعروف باسم «وكالة استخبارات الدفاع (دي آي إيه)».



للمفاجأة لم يكن استدعاء لوسي متعلقَا بهجمات الحادي عشر من سبتمبر من قريب أو بعيد ما توقعت، بل لم تكن المسألة متعلقة بها شخصيًا، وإنما كان الاجتماع مع رئيسها لإخبارها أن شقيقتها آنا مونتيس، قد تم القبض عليها بتهمة التجسس، وقد تواجه عقوبة الإعدام، كان ذلك مذهلًا، بعد كل هذا العمر، وكل هذا الإرث العائلي من العمل في الاستخبارات ضد الكوبيين، آنا جاسوسة لهافانا.

لكن لنفهم كيف يمكن أن تتحول امرأة في منصب رفيع بجهاز الاستخبارات إلى جاسوس لصالح الدولة التي يفترض بها مواجهتها، علينا أن نعود قليلًا لنعرف كيف بدأت القصة.

بذرة الغضب تستعر في نفس آنا مونتيس

في عام 1957 وفي إحدى القواعد الأمريكية المتمركزة في ألمانيا ولدت آنا مونتيس لأبوين تعود أصولهما إلى بورتوريكو، الإقليم التابع جزئيًا للولايات المتحدة، كان والدها ألبرتو طبيبًا عسكريًا يحظى بسمعة طيبة، التحقت آنا بمدارس ميريلاند، حيث ظهرت عليها مظاهر الاجتهاد والنبوغ فتخرجت من المدرسة العليا بتقدير مرتفع، لكن وراء تلك الفتاة المتفوقة دراسيًا، ذات العاطفة الجلية، كانت روح آنا تشتعل بالمشاكل العائلة التي يبدو أنها ولدت داخلها صراعات نفسية لم تفارقها أبدًا.

بعكس طبيعته الهادئة أمام المجتمع، كان ألبرتو داخل المنزل زوجًا وأبًا عنيفًا، يعتقد أن من حقه ضرب أطفاله، متنمرًا على أبنائه وزوجته الذين تعرضوا منه لإساءات جسدية ونفسية، وفي النهاية حصلت الزوجة على الطلاق في الوقت الذي كانت فيه آنا قد بلغت سن الخامسة عشرة، ويبدو أن تلك الأحداث قد تركت جروحًا لم تندمل في نفس آنا، وأثر على مسيرتها واختياراتها بعد ذلك، فـ«طفولة آنا مونتيس جعلتها غير متسامحة مع فروق القوة، وقادتها إلى التماهي مع الأقل قوة، وعززت رغبتها في الانتقام من الشخصيات الاستبدادية»، كما يصف تقرير نفسي أعدته «المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه)» عنها.

التحقت آنا بجامعة فرجينيا، وهناك وقعت في غرام شاب ذي أصول أرجنتينية، فتح أعين الفتاة الأمريكية اليافعة على السياسات الأمريكية «الظالمة» بحق دول أمريكا اللاتينية، ودعمها للأنظمة الاستبدادية التي تنتهك حقوق الشعوب، ومن هنا فيما يبدو بدأت بذرة عداء آنا للسياسات الأمريكية في النمو.

بين عامي 1977 و1978 سافرت آنا مونتيس إلى أسبانيا في مهمة دراسية، وهناك كونت علاقة صداقة مع آنا كولون، فتاة أمريكية تشاركها الأصول من بورتوريكو، آنا كولون التي ستصف لاحقًا تلك الفترة من عمر صديقتها بأنها «كانت فيها شديدة الغضب من الولايات المتحدة، والإهانات التي ترتكبها بحق أمم أمريكا الوسطى والجنوبية».

بحلول عام 1984 تكون آنا قد أنهت دراستها في فرجينيا، إذ التحقت بعدها بوظيفة مكتبية في وزارة العدل الأمريكية في واشنطن، في الوقت الذي التحقت فيه ببرنامج لدراسة الماجستير في جامعة جونز هوبكنز، وبينما كان عدائها للسياسات الأمريكية يتعاظم، وآرائها ضد إدارة ريجان وتعاملها مع ملفات أمريكا اللاتينية يزداد حدة، لفت ذلك أنظار بعض عملاء الاستخبارات الكوبية في واشنطن، والذين اعتقدوا أنه يمكن الاستفادة من حماسها الدءوب ومنصبها الحساس لصالح هافانا.

لا تتجسس لأجل المال

يلخص مجتمع الاستخبارات الأمريكي الدوافع التي قد تقود أي شخص إلى الانخراط في نشاط تجسسي ضد بلاده في أربعة دوافع محتملة: المال، والأيديولوجيا، والابتزاز، والنرجسية (الإيجو). جرت العادة خلال تلك الفترة أن تكتشف الولايات المتحدة جواسيسها من الرجال البيض، ممن هم في منتصف العمر، والذين يعانون من ضائقة مالية، أو الرجال الساخطين الذين تم تجاوزهم في الترقيات أكثر مما ينبغى، فدفعهم ذلك للبحث عن وسيلة للانتقام.

بالنسبة لمونتيس لم تجر الأمور الأمور على هذا النحو إطلاقًا، وهو ما جعلها أيقونة فريدة في عالم التجسس، كانت امرأة، وقليلات هن النساء الأمريكيات اللواتي انخرطن في نشاطات تجسسية لصالح «الأعداء»، كما كانت تتمتع دومًا بسجل مهني قوى يؤهلها للصعود إلى أعلى الدرجات، لم تلاقِ آنا صعوبات مهنية يفترض أن تثير غضبها ويدفعها إلى قبول عرض التجسس بهذه السهولة.

علاوة على ذلك لم تعمل آنا مع الكوبيين من أجل المال قط، لم تتلق أصلًا مبالغ مالية إلا في حالات قليلة ولأغراض تشغيلية، لقد حركتها الأيديولوجيا فقط، إذ كان دافعها الوحيدة للانخراط في تلك اللعبة هو إيمانها العميق بقضية الكوبيين وإعجابها الشديد بزعيمهم فيدل كاسترو، واشمئزازها من سياسات الولايات المتحدة ضد تلك البقعة من العالم.

اعتقدت أن سياسة حكومتنا تجاه كوبا قاسية وغير عادلة بالمرة، لا تليق ذلك أبدًا ببلدين جارتين، لقد شعرت بأنني ملزمة أخلاقيًا بمساعدة تلك الجزيرة وحمايتها من جهودنا لفرض قيمنا ونظامنا السياسي عليها * آنا مونتيس تصف دوافعها للتجسس لصالح الكوبيين.

في عام 1985 زارت آنا مونتيس كوبا سرًا، وهناك التقت بمشغليها في الاستخبارات الكوبية، ستعود آنا لتخبر صديقتها آنا كولون بحماس عن تلك الزيارة، وعن معارضتها للسياسات الأمريكية تجاه كوبا – في خطأ فادح وكسر لقواعد السرية التي يعرفها أي جاسوس مبتدئ – ولحسن الحظ فإن آنا كولون لم تُخبر أحدًا بسر صديقتها، وإن ظلت بعد ذلك تتعجب من تناقضاتها وعجائبها، حتى سمعت خبر القبض عليها بعد عقود، لم تكرر آنا مونتيس هذا الخطأ أبدًا، بل إنها قطعت علاقتها فجأة بآنا كولون، ولم تعد ترد على رسائلها في محاولة للابتعاد، ومن أجل مزيد من التخفي.

«ملكة كوبا» تخدع الاستخبارات الأمريكية

عام 1985 وتنفيذًا لتعليمات مشغليها الكوبيين، التحقت آنا بجهاز استخبارات الدفاع «دي آي إيه»، وهو جهاز الاستخبارات العسكرية الرئيس للحكومة الفيدرالية الأمريكية، حيث ستجتاز كل الاختبارات، وستثبت جدارة مهنية وانضباطًا يؤهلها للترقي السريع، وسرعان ما صارت آنا مونتيس محللًا رفيعًا لدى «دي آي إيه» للشؤون الكوبية؛ إذ لا تقضي دوائر الاستخبارات أمرًَا في شأن هافانا دون العودة إليها والاستماع لتوصياتها وتقديراتها، وبطبيعة الحال، كان لديها تصريح أمني للوصول إلى أكثر المعلومات حساسية في الوكالة.

لقبت آنا في دوائر الاستخبارات بـ«ملكة كوبا»، وطوال 16 عامًا هي مدة عملها في «دي آي إيه»، لم تكن أبدًا موضع شك، واجتازت بمهارة في 1994 اختبارًا لكشف الكذب أجرته المخابرات المركزية الأمريكية لعملاء الاستخبارات، وقد تلقت خلال مسيرتها المهنية مكافآت نقدية عديدة، و10 جوائر تقدير، فضلًا عن شهادة تميز قدمها لها مدير «وكالة المخابرات المركزية (سي آي إيه)» شخصيًا جورج تنت.

آنا مونتيس تتلقى تكريمًا من مدير وكالة المخابرات المركزية جورج تنت

لكن شهادة التميز الحقيقية التي كانت تعنيها كانت شهادة مشغليها الكوبيين، الذين أبدت لهم آنا مهارتها وولاءها يومًا بعد يوم، كان لديها القدرة على الوصول إلى الكثير من المعلومات ذات الحساسية المتعلقة بالشأن الكوبي، بما في ذلك تفاصيل القواعد العسكرية الأمريكية، وهويات بعض العملاء الأمريكيين السريين في كوبا، وهي المعلومات التي كانت ذات قيمة كبيرة للمخابرات الكوبية، ويعتقد أن لها دورًا كبيرًا في تسهيل استهداف القوات الأمريكية في أمريكا اللاتينية في عمليات مختلفة.

فضلًا عن ذلك فإن آنا التي كان من مهامها إطلاع دوائر الاستخبارات والقادة العسكريين الأمريكيين ومجلس الأمن القومي على الشأن الكوبي والقدرات العسكرية الكوبية، كانت تتبنى تقديرات «مضللة» من شأنها أن تخفف من سياسة الولايات المتحدة تجاه كوبا، فقد كانت تقدم تقاريرها التي تشير فيها إلى أن هافانا «لديها قدرة محدودة على إيذاء الولايات المتحدة، ويمكن أن تشكل خطرًا على الأمريكيين في ظل ظروف معينة فقط».

كانت آنا تتحلى بأقصى درجات الهدوء، والحيطة والحذر فيما يتعلق بنشاطها التجسسي، ولم تترك وراءها أي خيط قد يسهم في كشف أمرها، لم تقم أبدًا بنسخ أو اصطحاب أي مستندات، ورقيًا أو إلكترونيًا، بل كانت تعتمد على ذاكرتها الحديدية، والتي تحفظ فيها أثناء العمل كل المعلومات ذات القيمة، وحين تعود إلى منزلها، تقوم بتدوينها على الحاسوب الخاص بها من نوع «توشيبا»، ثم تنقلها إلى أقراص مشفرة، حيث تتلقى التعليمات عبر الراديو بشفرة خاصة، ثم تقوم بنقل تلك الأقراص المشفرة إلى عملاء للمخابرات الكوبية تلتقيهم في مطاعم مزدحمة وفي هدوء تام، أو في عطلاتها في جزر الكاريبي.

آنا مونتيس في قبضة الأمريكيين

كان المسمار الأول في نعش آنا عام 1996، حين أبلغ أحد زملائها عن شكوكه بشأن إمكانية وقوع آنا تحت تأثير المخابرات الكوبية، إذ لفت انتباهه رغبتها الدائمة في الوصول إلى معلومات ذات طبيعة حساسة، حاورها ضابط استخبارات حاد الذكاء يدعى سكوت كارمايكل، لكنه لم يجد ما يدينها، فحُفظ الملف، لكن كارمايكل ظل يساوره شعور بعدم الارتياح، إذ اعتقد بأن آنا تخفي أمرًا ما لم يستطع حينها تبين طبيعته.

بعد أربع سنوات في سبتمبر (أيلول) من عام 2000، ستتلقى المخابرات المركزية إشارة بأن «إف بي آي»، قد فشل لمدة عامين في التوصل إلى هوية عميل خطير للمخابرات الكوبية داخل صفوف الاستخبارات، كانت المعلومات المتوفرة عن العميل المجهول شحيحة للغاية، يمتلك العميل أحقية للوصول إلى ملفات المخابرات الأمريكية بشأن كوبا، وقد اشتري جهاز لاب توب من نوع «توشيبا»، مع بعض التفاصيل الصغيرة.

يتولى كارمايكل مسؤولية التحقيق مع زميل له ويبدآن العمل، بعد البحث في قواعد بيانات موظفي الاستخبارات وجد أن التفاصيل تنطبق على 100 موظف، يلمح كارمايكل اسم آنا مونتيس فيتذكر ما كان منها منذ أربع سنوات، ويحسم في قرارة نفسه أنها هي الهدف المنشود، قبل أن تبدأ رحلة البحث عن أدلة.

يتم البحث في سجلات ائتمان فيظهر أنها قد قامت في عام 1996 بشراء لاب توب من نوع «توشيبا» فتتعزز الشكوك، أثمرت زيارة تفتيش سرية لبيت آنا أثناء غيابها عن اكتشاف الراديو الصغير وبعض الأدلة الأخرى، وضعت مونتيس تحت المراقبة، وتم تصويرها وهي تجري مكالمات «مشبوهة» من الهواتف العمومية، ومكث الأمريكيون في صبر ومراقبة ينتظرون أن يلتقطوا من تصرفات آنا طرف خيط يقودهم إلى مشغليها، وطريقة عملها، والشبكة المرتبطة بها.

لكن صبر الاستخبارات الأمريكية وصل إلى نقطة النهاية مع وقوع أحداث 11 سبتمبر 2001، إذ كان من المخطط – وفقًا لقواعد الأقدمية – أن تنتقل آنا إلى موقع وظيفي أعلى سيتيح لها الاطلاع على خطط الحرب الأمريكية على أفغانستان، وهو ما أثار خوف المحققين من أن تقوم آنا بنقل تلك الخطط إلى الكوبيين الذين قد ينقلونها بدورها إلى طالبان، فاتخذت الإدارة قرار حسم القضية، وألقي القبض على مونتيس في 21 سبتمبر 2001، ومواجهتها بأدلة تجسسها.

لم تقاوم آنا طويلًا، إذ اعترفت بالتهم الموجهة إليها لتتلقى حكمًا بالسجن مدة 25 عامًا، تقبع آنا حاليًا في سجن للنساء شديد الحراسة في فورت ورث بولاية تكساس، ويفترض أن تنتهى مدة حبسها في 2026، لكن لا يبدو أن سنوات السجن الطويلة قد فتت في عضدها، ففي مراسلاتها الخاصة، لا تبدي آنا أي ملمح للاعتذار أو الندم، وتعتبر أن تجسسها على الولايات المتحدة كان مبررًا؛ «لأن الولايات المتحدة ارتكبت الكثير من الفظائع بحق كوبا».