لقد مرت أكثر من خمسة عقود منذ أن سار رواد الفضاء الأوائل على سطح القمر. ومنذ ذلك الحين، لم يقم سوى أسطول من المسابير بزيارة القمر، وقاموا بعمل مذهل في تزويد مراكز الأبحاث بكمية هائلة من المعلومات حول البيئة القمرية. ساهمت هذه المساعي البحثية في فهم أعمق للقمر ومهدت الطريق لإعادة التفكير في زيارته، ولكن هذه المرة لأغراض مختلفة عن ذي قبل.

في العقدين الماضيين، ومع تزايد دور القطاع الخاص في صناعة الفضاء، بدأ المستثمرون يفكرون بجدية في استغلال الفضاء بطريقة تعزز عوائد الاستثمار. وقد ظهرت فكرة العائد الاستثماري من التعدين على سطح القمر والتوسع في تنفيذ البحث العلمي بشكل ملفت، بالإضافة إلى الترويج للسياحة الفضائية بما في ذلك زيارة القمر.

خلال السنوات القليلة الماضية، حدث تغيير إيجابي نحو العودة إلى القمر، حيث أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وروسيا والصين واليابان والهند والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل وكوريا الجنوبية عن طموحاتها لاستكشاف القمر من خلال استثمارات ضخمة في مشاريع كبرى. كان المشروع الأكثر حيوية بين الجميع هو برنامج آرتيمس "Artemis" الذي تبلغ تكلفته 100 مليار دولار والذي تديره وكالة ناسا. يتضمن برنامج آرتيمس سيناريوهات للبقاء على سطح القمر ومداره لفترات طويلة وإنشاء قاعدة فضائية تستخدم كمحطة إطلاق لبعثات الفضاء السحيق نظراً لحقيقة أن القمر لديه جاذبية أضعف بكثير من الأرض، مما يسمح للصواريخ بالإقلاع بسهولة مما يجعله أيضاً أكثر جدوى من الناحية الاقتصادية، بالإضافة إلى إمكانية التعدين، بناء على نتائج الأبحاث العلمية التي أكدت وجود معادن ثمينة عديدة على سطح القمر وما تحت السطح. أحد الأهداف المهمة لمهمة آرتيمس هو إعادة الإنسان ووضع أول امرأة على سطح القمر في عام 2025. وسيشمل برنامج آرتيمس الكامل 37 عملية إطلاق وإنشاء قاعدة دائمة على سطح القمر. وقد انضمت مملكة البحرين للدول الموقع على اتفاق آرتيمس في عام 2022، حيث تعتبر من الدول الأولى التي تنضم للفريق المؤسس، وقد كانت لها إسهاماتها المتميزة في الجهود الرامية لتحقيق أكبر عائد من هذا المشروع الكبير.

السفر إلى القمر سيظل مكلفاً، ورغم ذلك فإن مخططي برنامج Artemis واثقون جداً من أن الفوائد تفوق التكلفة. والأهم من ذلك أن حكومة الولايات المتحدة تتوقع عائداً جيداً على الاستثمار. إن المقارنة بين بعثات القمر المستقبلية وبعثات أبولو ستقودنا إلى إدراك حقيقة أن استثمارات أبولو الأولية في التكنولوجيا وأنظمة الأقمار الصناعية المناخية وأنظمة الأقمار الصناعية العالمية للملاحة "GNSS" وأجهزة الاتصالات المتقدمة التي تم إنشاؤها لدعم البعثات القمرية أصبحت الآن جزءاً من الحياة اليومية على الأرض. وكما حدث من قبل، فإن التقنيات الجديدة التي تم تطويرها لدعم البعثات القمرية المستقبلية ستجد بالتأكيد طريقها إلى اقتصادات العالم، مما يعني عائداً جيداً على الاستثمار.

تستثمر الصين واليابان بكثافة في البعثات الفضائية وتتطلعان بجدية تامة إلى إرسال بعثات قمرية. أعلنت الصين وروسيا عن جهد تعاوني لبناء قاعدة قمرية قبل عام 2030. لقد كان الصينيون واضحين جداً بشأن نواياهم ولديهم قدرة جيدة على تنفيذ مهمة قمرية طويلة الأجل، وهم يخططون لهبوط مأهول على سطح القمر وتطوير مركبة فضائية جديدة لمثل هذه البعثات. وعلاوة على ذلك، تخطط الصين لبناء محطة أبحاث علمية على القطب الجنوبي للقمر في غضون السنوات العشر المقبلة.

تتباين الجهود التي تبذلها البلدان الأخرى للوصول إلى القمر لدراسته من مداره أو للهبوط على سطحه تفاوتاً كبيراً. وحتى اليوم، تمكنت ثماني دول فقط من الوصول إلى سطح القمر كجزء من بعثات ناجحة أو شبه ناجحة.

ستسمح التطورات التكنولوجية الحالية والتكنولوجيات التي يجري تطويرها للبعثات القمرية للعلماء بإجراء دراسات أكثر تفصيلاً لسطح القمر وتحت سطحه. وسيسعى العلماء أيضاً للحصول على إجابات للأسئلة الكبرى حول كيفية تشكل النظام الشمسي، وتكوين القمر، وجيولوجيته. وستحفز بعثات استكشاف القمر البحث العلمي والابتكار على نطاق واسع. من المعلوم أن البيئة القاسية للقمر تتطلب الكثير من الاستثمارات والجهود البحثية والابتكارات للتغلب عليها وتمكين البشر من إنشاء مستعمرات على سطح أقرب جسم طبيعي إلى الأرض واستغلاله لصالحهم.

تدعم الأدلة العلمية وفرة مجموعة من الموارد الطبيعية ذات القيمة الصناعية العالية التي يمكن استخراجها من خلال التعدين القمري، والذي ينظر إليه على أنه أحد أهم عوائد الاستثمار في البعثات القمرية الحالية. بالإضافة إلى ذلك، تشير الدراسات القائمة على تحليل تربة القمر والصخور التي تم جمعها خلال البعثات الست التي هبطت بالبشر على سطح القمر بين عامي 1969 و 1972 إلى وجود موارد قيمة يمكن استخدامها في بعثات فضائية أخرى، على سبيل المثال، تعتقد ناسا أنه يمكن استخراج الأكسجين السائل من القمر بسهولة وتخزينه لاستخدامه في بعثات فضائية أخرى، خاصة البعثات لاستكشاف الكوكب الأحمر، لأنه مكون رئيس للوقود اللازم للبعثات الفضائية.

يجب ألا نغفل حقيقة أن ناسا حطمت في العقدين الماضيين سلسلة من المسابير على سطح القمر لقياس كمية المياه داخل الصخور أو تحتها. ما وجدوه كان مفاجئا، كان هناك الكثير من المياه الموجودة أكثر مما كان يعتقد سابقا. بالإضافة إلى ذلك، هناك دليل على وجود جليد مائي في قطبي القمر، مخبأة في الحفر حيث لا تصل أشعة الشمس. تخطط ناسا لاستخدام هذه المياه لدعم استعمار سطح القمر وبعثات الفضاء السحيق القادمة.

يعد التحول إلى القمر خطوة مهمة في التخطيط لبعثات المريخ المستقبلية التي تحظى باهتمام متزايد في السنوات القليلة الماضية. الأمل هو أن يتعلم البشر من إقامتهم على سطح القمر كيفية العيش في بيئة غير ودية قبل أن يضعوا أقدامهم على مواقع أبعد مثل المريخ. وبالتالي، فإن الخبرات المتراكمة والحلول المطورة ستمهد الطريق لبعثات المريخ وما وراءها.

القمر كنز دفين ولهذا السبب تستثمر العديد من البلدان الكثير من مواردها لزيارة القمر في أقرب وقت ممكن في سباق غير معلن. كما يعتقد العلماء من مختلف المجالات اعتقاداً راسخاً بأن عودة البشرية المتوقعة إلى سطح القمر في السنوات القليلة القادمة يمكن أن تساعد الحياة على الأرض وتحدث تحولاً علمياً هائلاً.

بالإضافة إلى ما سبق ذكره كأمثلة على ميزة العودة إلى القمر، إليك أمثلة أولية إضافية ملخصة في النقاط التالية:

* يمكن أن يكون القمر مصدراً للطاقة الشمسية المحدودة للأرض من خلال جمع الطاقة الشمسية عبر الألواح الشمسية منخفضة التكلفة للغاية وإرسالها إلى الأرض في شكل شعاع ميكروويف.

* القمر غني بالهيليوم-3 الذي يستخدم لطاقة الاندماج النووي النظيفة والآمنة، والتطبيقات الطبية، وغيرها من الاستخدامات.

* يمكن استخدام الجانب البعيد من القمر "الجانب الذي لا يرى من سطح الأرض" لبناء تلسكوبات راديوية وبصرية تعزز المعرفة البشرية بالكون وتبحث عن إشارات من حضارات خارج كوكب الأرض دون أي تدخل من إشارات الأرض.

* يمكن أن يكون القمر مكاناً بديلاً جيداً لتخزين المواد الصناعية الخطرة على الأرض والنفايات والملوثات دون القلق بشأن آثارها الجانبية على البيئة الأرضية.

* سيسهم إنشاء مختبرات تدور حول القمر في تنفيذ الكثير من التجارب العلمية التي سيكون لها تأثير مباشر على التقدم العلمي في جميع أنحاء العالم. بالإضافة إلى ذلك، ستدعم هذه المختبرات الوجود البشري على سطح القمر لفترات طويلة ويمكن أن تساعد في تصميم مختبرات مماثلة تدور حول المريخ في المستقبل.

* إن استيطان سطح القمر لا يمكن أن تقوم به وتستثمره دولة بمفردها، وبالتالي، يجب على مختلف البلدان التي تشترك في نفس المصالح أن تعمل معاً، وهذا سيعزز التعاون الدولي لصالح البشرية جمعاء الذي يمكن أن يدعم ويحافظ على السلام على الأرض.

العلاقة بين الأرض والقمر ضرورية لوجود الحياة على الأرض بلا أدنى شك، حيث كان للقمر دور فعال في دعم الوجود البشري على الأرض منذ آلاف السنين. أصبح دور القمر اليوم ذا أهمية متزايدة وسيدعم التنمية البشرية والنمو لعقود عديدة قادمة. ولتحقيق ذلك، يجب أن نعود إلى القمر، وندرسه عن كثب، ونفهمه جيداً، ونستفيد منه بطريقة عادلة تحافظ على بيئته وتضمن استدامة موارده الطبيعية. باستخدام الموارد الطبيعية للقمر، يجب على البشر تجنب تكرار أخطائهم السابقة التي ارتكبوها على الأرض.

سيتم ربط الأجيال القادمة بطريقة غير مسبوقة بالقمر، وسيكون مصدراً لإنجازات بشرية عظيمة تتجاوز قدرتنا الحالية على التخيل. في الختام، يمكننا القول "إن القمر هو أمل البشرية".

* الرئيس التنفيذي للهيئة الوطنية لعلوم الفضاء بمملكة البحرين