يقول الله تعالى في كتابه العزيز في سورة الحجرات ( آية رقم 13 ) (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا...) فإذا تأملنا هذه الآية الكريمة فنجد أنها تتضمن قاعدة اجتماعية مهمة، وهي أن التواصل بين الأمم والشعوب وتبادل الثقافات بينهم خاصية من خصائص المجتمعات البشرية، فالعلاقات بين الشعوب علاقات ديناميكية، وتبادل الثقافات والانفتاح بين الشعوب أمر طبيعي لا بد منه؛ فالتبادل الثقافي يحدث بين الأمم والشعوب يحدث بطريقتين: إما أن يكون تبادلاً ثقافياً مقصوداً فيحدث بتلقائية وعفوية، أو يكون تبادلاً ثقافياً منظماً مقصوداً.

ونقصد بالتبادل الثقافي هو أن تنتقل الثقافة من شعب إلى آخر عند تواصلهم مع بعض فيكون في عدة مجالات كالعادات والتقاليد، واللغة، والأدب والفنون، والعلوم المختلفة، وفنون البناء والعمران، فكل حضارة تتأثر بالأخرى، وكل مجتمع يقتبس من الآخر، وكل شعب يتبادل الثقافة مع الآخر، وتلك سنة الله في خلقه.

فعندما تستعرض أحداث التاريخ تجد أن التبادل الثقافي العفوي وغير المنظم موجود بين الشعوب والحضارات على مر العصور، فهذا التبادل الثقافي يكون ملازما لرحلات التجار عبر القارات، فقوافل التجار البرية والبحرية والجوية تنقل العادات والتقاليد والأدب والشعر، والعلوم المختلفة، ولعلنا نذكر خط التجارة بين الهند ودول الخليج العربي حيث استقبلت دول الخليج من خلال رحلات التجارة البحرية على مر القرون الثقافة الهندية، سواء في مجال العادات والتقاليد، مثل: مجال الطعام والطبخات كإدخال البهارات في الأطعمة، والآجار، والطبخات الهندية المشهورة كالسمبوسك والبرياني والمتاي وغيرها، أما في مجال الأزياء فأنت ترى آثار التبادل الثقافي واضحة في تصاميم ثوب النشل، واستخدام أقمشة الساري لتصميم الجلابيات، وكذلك الأمر مجال الأثاث، بل حتى في مجال الأدب والفنون والغناء، وبلا شك في مجال العلوم كعلوم الطب، والهندسة وغيرها،حيث كان يستقطب الأطباء الهنود للعمل في دول الخليج العربي، ويتجه طلاب الخليج العربي للدراسة في الهند.

وكذلك الأمر نجد التبادل الثقافي يحدث بعفوية عند الرحلات الدينية حيث يتجه الناس من كل حدب وصوب لمكة المكرمة للحج، وكذلك نجد التبادل الثقافي يكون عن طريق الجنود الذين يغزون الدول خلال الحروب، وكذلك عند استعمار الدول. فهذا التحرك بين الأمم والشعوب في صوره المختلفة ولأغراضه المختلفة الدينية منها والاستعمارية والعدوانية، يلازمه تبادل ثقافي عفوي بين الشعوب في جميع المجالات فكل طرف يتأثر بثقافة الآخر، ومما لا شك فيه أن هجرة الشعوب من وطن إلى آخر والانتقال للعيش من مجتمع إلى آخر من وسائل التبادل الثقافي العفوي وغير المنظم فتجد المهاجرين يؤسسون مناطق وأحياء تحمل الهوية الثقافية لوطنهم الأم، فتجد هناك حياً يحمل الهوية الثقافية الهندية، وهناك حي يحمل الهوية الثقافية المصرية، وآخر الصينية وهكذا.

وفي الوقت نفسه هناك تبادل ثقافي منظم حيث يتم إنشاء محافل ثقافية يكون تحت مظلتها تبادل ثقافي ينتقى من خلالها أفضل جوانب الثقافة المرغوب في استقطابها، ولعل أبرز مثال على ذلك الأسواق الثقافية المشهورة عند العرب قبل الإسلام، حيث تقام أسواق ثقافية على هامش موسم الحج، فعند قدوم القوافل من جميع القبائل العربية للحج تقام أسواق ثقافية تسهل التبادل الثقافي حيث سوق عكاظ، وسوق الرابية، وسوق هجر، وفي هذه الأسواق تستعرض كل قبيلة أرقى ما لديها من ثقافات، وتقام المنابر الشعرية لعرض أروع القصائد، وتقام المنافسات والمسابقات في الفروسية لاستعراض فنون الفروسية، ناهيك عن فنون الصناعات المختلفة حيث تباع منتجات تلك القبائل بما تحمله من فنون سواء في تصميم الملابس أو الأواني والأدوات المنزلية وغيرها، وفي هذه الأسواق تعقد الاتفاقيات والمعاهدات، فهو ملتقى حضاري بين العرب.

وهناك صورة أخرى من صور تنظيم تبادل الثقافات وهي إنشاء المراكز الثقافية بين الدول فتجد دوله تنشئ مراكز ثقافية في دولة أخرى تكون مهمتها تنظيم عملية التبادل الثقافي في صوره المختلفة ومن هذه المراكز: المراكز الثقافية البريطانية التي أنشئت في بعض الدول منها بعض دول الخليج العربي، والمركز العربي البريطاني الذي أنشئ في بريطانيا، وكذلك المركز الثقافي الإسلامي في لندن، ومما لا شك فيه فإن وسائل الإعلام التي تبث عبر العالم هي من أهم وسائل التبادل الثقافي المنظم كالقنوات الفضائية، والصحف وغيرها، وعموما فإن التبادل الثقافي هو نقيض احتكار العلوم والثقافة، وهو أمر غير مرغوب بين البشر فقد بين الله تعالى في كتابه العزيز أن التبادل الثقافي سنة من سنن الله في كونه فلا يجوز مخالفتها..

ودمتم سالمين.