إذا أردنا أن ننظر لاتفاقية سايكس بيكو من زاوية مختلفة، نضيفها إلى تلك التي تعالجها من منظار تقسيم المنطقة العربية التي كانت خاضعة للدولة العثمانية، فيمكن اعتبارها مدخلاً لتنظيم التضارب الذي نشأ بين مصالح الدول الأوروبية المتحالفة، وعلى وجه التحديد بريطانيا العظمى وروسيا القيصرية وفرنسا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، عندما كانت «روسيا تطمع في إدخال القدس وفلسطين ضمن نفوذها؛ نظراً لوجود رجال الدين والكنائس الأرثوذكسية بها، بينما فرنسا تسعى نحو تثبيت نفوذها في منطقة بلاد الشام خاصة سوريا، وكان ذلك باعثاً لتخوف الحكومة البريطانية؛ إذ إن الوجود الفرنسي والروسي على هذا النحو يحرمها من خليج (عكا - حيفا) المنفذ الرئيس للعراق على البحر المتوسط، كما إن بريطانيا لن ترضى أن ترى فرنسا أو روسيا على مقربة من قناة السويس؛ لأن ذلك يهدد طرق مواصلاتها مع الهند».
هذا على الصعيد الدولي، أما على الصعيد الداخلي العربي فقد كان بعض القادة العرب من أمثال حاكم الحجاز الشريف حسين يطمح حينها في تأسيس دولة عربية تضم بلدان المشرق العربي يكون هو رئيسها، واضعاً ثقته في تلك الدول التي كانت تضع اللمسات النهائية على تلك الاتفاقية المشؤومة.
في اختصار ودون الحاجة للدخول في تفاصيل تلك الاتفاقية، يمكن التوقف عند أهم ما تمخضت عنه وهو تجزئة البلدان العربية الخاضعة للدولة العثمانية، وتوزيعها كغنائم على الدول الثلاث: روسيا، وبريطانيا وفرنسا، إضافة إلى زرع الكيان الصهيوني في قلب المنطقة العربية. وكان التحول الجذري الوحيد الذي أوقف العمل ببعض بنودها، بل وكشف الستار عما حوته تلك البنود، هو انتصار الثورة البلشفية في موسكو وتأسيس الاتحاد السوفيتي، وما تلا ذلك من تغيير في العلاقات الدولية في تلك المرحلة.
من ينظر إلى المشهد السياسي العربي اليوم تجتاحه موجة خوف شديدة من احتمال كون العرب ضحية إعادة تقسيم جديد شبيه إلى حد بعيد بذلك الذي عرفته المنطقة العربية في أعقاب الحرب الكونية الأولى، مع ضرورة الإشارة إلى بروز أربعة عناصر جديدة مؤثرة في هذه المرحلة، أولهما قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين ونتائج الحروب التي شنها ضد الدول العربية منذ تأسيسه، وثانيهما دخول الولايات المتحدة كلاعب أساس في الساحتين الدولية على النطاق العالمي والشرق الأوسط في الحيز الإقليمي. أما الثالث فتلك الثورة السياسية / الاجتماعية غير المعهودة وعلى جميع المستويات وبكل المقاييس التقليدية للتغيير، التي ولدتها ثورة الاتصالات والمعلومات والتي أوجدت قوى اجتماعية تبدو متضاربة المصالح، لكنها في الجوهر متناغمة وتتجه نحو مركز استقطاب واحد يدعو للتغيير. أما الرابع فهو نمو الطبقة الوسطى العربية وفي جميع البلدان العربية بوتائر متسارعة لم تعد قيم الأنظمة القائمة قادرة على استيعابها، أو التفاعل الإيجابي معها لامتصاص حالة الرفض المتنامية في داخل نفوس أفرادها.
وتنبع أهمية العامل الجديد الأول من وجود قوة فرضت نفسها كطرف محلي على ساحة العلاقات الدولية، رغم كونها جسماً غريباً على المنطقة، لكنها تستمد قوتها الدولية وحضورها الإقليمي من علاقاتها الاستراتيجية الطويلة المدى مع الدوائر الغربية، وفي المقدمة منها الولايات المتحدة، أما الثاني فهو ضخامة المصالح الأمريكية في المنطقة وأنانية واشنطن الجشعة التي تريد أن تستأثر بنصيب الأسد من خيرات البلاد العربية، وعلى وجه الخصوص النفطية واتفاقات التسلح. أما خطورة الثالث والرابع فكونهما يفتحان المجال أمام تدخلات أجنبية في شؤون المنطقة الداخلية.
أمام تلك العوامل والظروف التي تولدت عنها يمكننا الجزم أن المنطقة، واستجابة لظروف داخلية محضة، مؤهلة لتغيير، حيث لم تعد الأنظمة العربية القائمة حتى لحظة اندلاع شرارة ما عرف باسم «الربيع العربي» من تونس قادرة على إحداث التحولات السياسية والاجتماعية المطلوبة القادرة على التكيف مع التطورات التي ولدتها العناصر الأربعة المشار إليها أعلاه. مما وضعها في خانة غير مقبولة على الصعيدين الداخلي السكاني المحلي، والخارجي الدولي.
وإذا ما أضفنا إلى ذلك عنصراً مهماً، وهو الأزمة الاقتصادية البنيوية التي تعصف بالاقتصاد الغربي اليوم، وفي المقدمة منه الاقتصاد الأمريكي، وهو حالة مشابهة إلى حد بعيد بما ساد أوضاع الدول الغربية، باستثناء الولايات المتحدة حينها، وهو الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي كانت تعصف بالدول الاستعمارية الغربية الخارجة لتوها من الحرب الكونية، فربما نجد أنفسنا أمام ظروف مشابهة إلى حد بعيد ما تلك السائدة في مرحلة سايكس بيكو جديدة، مع اختلاف واحد هو أن دور البطولة في تسيير أمورها لم يعد، كما كان أيام سايكس بيكو، محصوراً في الغرب فقط، فهناك الولايات المتحدة من جانب، وأوروبا الغربية من جانب آخر، والمحور الصيني - الروسي من جانب ثالث.
ولربما تكشف الالتواءات الحادة، والتعرجات المتكررة، وحالات الصعود والهبوط التي تتعرض لها القوى المحلية المتصارعة فوق الساحات السورية، والمصرية، بل وحتى التونسية والليبية، وعلى نحو جلي مكثف، بعض جوانب سايكس بيكو الجديدة التي نحذر منها، حيث نجد القوى المحلية في طرفي الصراع، تلك المتشبثة بالسلطة، ومنافستها الساعية للإطاحة بها، تستعينان بقوى خارجية، من الطبيعي أن تعمل، تماماً كما فعلت العواصم الغربية الثلاث موسكو ولندن وباريس بين 15 نوفمبر 1915 ومايو 1916، على الخروج بصيغة تحمي فيها مصالحها هي قبل أن تنظر في أهداف تلك القوى المحلية، ومن ثم فمن غير المستبعد أن تكتشف القوى المحلية، لكن بعد فوات الأوان، إنها كانت أدوات في مشروع عالمي، لم تستطع، بفعل اندفاعها، وعدم ترويها، وربما استعجالها، من تتبع خيوطه، والوصول إلى المراكز التي ترسم معالمه، بدقة متناهية.
نحذر هنا من الفهم السياسي المسطح الذي يقفز إلى نتيجة ساذجة، مفادها أن التحولات التي عرفتها المنطقة العربية مؤخراً إنما هي من صنع أياد أجنبية محضة، وأن من قاموا بها، ولايزالون يتصارعون فيما بينهم من أجل تحقيق كل منها لأهدافه التي تخدم مشروعاته، إنما هم حفنة من عملاء يتقاضون أتعاب ما يقومون به من العواصم الغربية أو الشرقية. الأمر أعقد بذلك بكثير، ويحتاج إلى ذهنية جدلية معقدة، قادرة على التفكيك، وإعادة التركيب، كي تضع الأمور في نصابها، وترى الصورة كما هي عليه، لكن بوضوح أشد.
جوهر المناظرة بين ما جرى في القرن التاسع عشر من جانب، وما نحذر من احتمال حدوثه اليوم، هو تحذيرنا من مغبة إعادة تجزئة الخارطة العربية، ربما تحت مسميات جديدة، مثل «الشرق الأوسط الجديد»، كي تتحول في نهاية المطاف إلى المزيد من الجزر المتناثرة التي يطلق عليها البلاد العربية، لا يصل مستوى التعاون بينها إلى ذلك الذي يمكن أن ينظم حركة المد والجزر بين جزر يضمها أرخبيل واحد مشترك.
يحضرني هنا قول روج له صحافي أمريكي مشهور، وقريب من دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة هو توماس فريدمان، حين وصف الدول العربية متهكماً «إنَّ الدول العربية هي مجموعة من القبائل بأعلامٍ مختلفة».
فهل نحن مازلنا كذلك؟ الأمر بحاجة إلى مصارحة مع الذات، بعيداً عن أي ادعاءات واهمة، أو مكابرات مدمرة.