لم أكن على علم بمهرجان لندن للعمارة London Festival of Architecture)، حتى استوقفتي عبارة كتبت بالإنجليزية على لوحة إعلانية للمهرجان، كان أحدهم فرغ لتوه من تعليقها على أحد الجدران التي أمر بها في طريقي لاستقلال الحافلة اللندنية الحمراء كل صباح.. لوحة كتب عليها (If you turn the city upside down, Stories will fallout)، أي «لو قلبت المدينة رأساً على عقب؛ الحكايات سوف تتداعى/ تهوي!». وقفت أمام العبارة والتقطت لها صورتين ثم مضيت ألحق بالحافلة التي لا تتأخر ولا تنتظر.
كان المكان الذي تركته خلفي محاطاً بمجموعة من الشباب المعماريين على ما يبدو أو المعنيين بالعمارة والمدينة، وددت عندما قرأت هذه العبارة لو عدت إليهم لأحدثهم، وأقول لهم إنني من البحرين، وإننا في وطني لدينا مشروعنا للحفاظ على المباني التاريخية والتراثية، بما يحفظ القصص من السقوط والتداعي، وإننا سجلنا على قائمة التراث العالمي طريق اللؤلؤ الذي يختزن ذاكرة اجتماعية واقتصادية في عدد من البيوت والممرات.
وإننا في وطني نعي المسؤولية، شعباً وقيادة، حتى إننا أنشأنا مركزاً إقليمياً تابعاً لليونسكو في البحرين لمعاونة الدول العربية في حفظ تراثها الإنساني والمعماري، وكنت سأسألهم إن كان الناس في بلادهم يتبرعون ببيوتهم من أجل أن تبقيها المؤسسات الحكومية وتحافظ عليها جزءاً من الإرث الجمعي كما يحدث في وطني، وكنت سأسألهم، إن كان الناس في بلادهم يتنادون من تلقاء أنفسهم إن أي أذى أصاب المباني التراثية فيتصلون بالهيئات الحكومية. كنت سأخبرهم بأننا نتشارك معهم هذا الفكر التنويري، وببعض الخبث الطيب، كنت سأمرر ما يوحي بأن شارعنا البحريني بفطرته واع ومنتم أكثر.. ركبت الباص على كل حال.
لم يمض وقت طويل حتى كشفت هيئة البحرين للثقافة والآثار عبر برنامج «كلمة أخيرة» مع الكاتبة سوسن الشاعر عن التحديات الكبرى التي تواجه الحفاظ على النسيج العمراني للمدينة القديمة في المحرق، وعن كون العائق ليس مادياً ولا زمنياً، مع تعهد «الثقافة» باستيفاء متطلبات السكان، والالتزام بالحد الزمني والمالي لترميم البيوت التراثية وإبقاء سكانها الأصليين فيها، وإحياء المدينة القديمة بالمحرق، ثم صادفت خبر هدم شيء من بيت الطواويش وتنادي الناس أنفسهم للحد من هذا الهدم في المنتديات ووسائل التواصل الاجتماعي، وأياً كانت أسباب الهدم أو ملابساته، نعرف جميعاً أن تحدياً ما يواجه الحفاظ على التراث والبيوت التراثية، وأن حملة للحفاظ على هذه البيوت تحمل عنوان «بيوت تنادي أهلها»، انطلقت للحفاظ على الإرث المعماري والنسيج العمراني للمدن القديمة، بجهود الناس قبل المسؤولين.
أدعو، إن صح لي أن أفعل، الجميع لتحمل مسؤولياتهم تجاه ذاكرتنا الجمعية، الناس والحكومة والمؤسسات الأهلية والقطاع الخاص. نحن لسنا دولة تعاني حرباً أو صراعاً مسلحاً كالعراق أو سوريا حتى ينهدم تراثنا، ثم نبكي عليه، نحن بفضل الله وحكمة قيادتنا، ننعم بالأمن والسلام الذي لابد وأن ينعكس على حفظ تراثنا وموروثنا وإحيائه، لا بإبقائه في المتاحف من أجل الفرجة، ولكن بجعله جزءاً من حياتنا اليومية ومعيشتنا وهذا ما يعنيه إحياء المدن القديمة.
الوطن فكرة، والتاريخ هو ما يمنح هذه الفكرة مصداقية ومرجعية تستند إليها، فلا تستهينوا بهذه الجدران العتيقة، ولا تعتقدوا بأن الخرسانة والإسمنت الجديد والطوابق العديدة والمباني الشاهقة ستمنحنا دائماً بدائل أفضل.. لا أحد يبيع ذاكرته بمقابل إسمنت وحصى.. هذا بيع خاسر..