بريطانيا ليس لديها أعياد قومية كباقي الدول، فلا عيد للاستقلال، ولا عيد للجيش، وللجلوس، ولا يوم وطني. وأعيادها الرسمية هي أعياد دينية، كعيد الميلاد، ورأس السنة، والجمعة العظيمة، وإثنين الفصح، وعيد الصناديق «بوكسنغ داي»، أضافوا إليها 3 أيام عطلات للبنوك، لتصبح ثمانية أيام في العام. فهل يضيف إليها الإنجليز عيد «الاستقلال»، حين يكملون انسحابهم من الاتحاد الأوروبي؟
* الخروج يعيد السيادة والاستقلال: يبرز هذا التساؤل حين يرى المراقب رئيسة وزراء بريطانيا، تيريزا ماي، التي تولت منصبها قبل عدة أشهر، تتعهد بأن تجعل بلادها «دولة ذات سيادة ومستقلة» من جديد، عن طريق إلغاء القانون الذي أتاح لها دخول الاتحاد الأوروبي. ووصفت ماي مناسبة خروج بلادها من الاتحاد بأنها «أول مرحلة في تاريخ المملكة المتحدة كبلد ذي سيادة ومستقل مرة ثانية، وسيعيد القوة والسلطة إلى المؤسسات المنتخبة، مما يعني أن سلطة قانون الاتحاد الأوروبي في بريطانيا ستنتهي». وكأن رئيسة وزراء بريطانيا تقول إن «انضمام بلادها للاتحاد الأوروبي، عام 1973، قد انتقص من سيادتها واستقلالها، إضافة إلى تقييد سياساتها، الداخلية والخارجية، على مدى أربعة عقود»، وهي البلاد التي تعودت أن تكون حرة طليقة على الساحة الدولية، تتصرف كما تمليه مصالحها الذاتية، لا كما تقتضيه قوانين الاتحاد الأوروبي، علماً بأن أهم مبادئ الاتحاد: نقل صلاحيات الدول القومية إلى المؤسسات الدولية الأوروبية، خاصة في الشؤون الخارجية والأمن.
* الحنين إلى الماضي: جاء بروز هذه النزعة الاستقلالية، لدى الإنجليز، من إحساسهم بالرغبة، بل بالحاجة الملحة، للعودة إلى نفوذهم السابق، أيام كانوا الدولة الأولى في العالم. فجاءت نتائج الحرب العالمية الثانية لتقلص من نفوذ الإنجليز، لصالح دول كبرى أخرى صاعدة، وهم الذين كانوا يوماً أصحاب إمبراطورية عظمى لا تغيب عنها الشمس. فاليوم يعلنون أنهم تأهبوا لاستعادة سطوتهم وهيمنتهم ونفوذهم في العالم.
* فشل التجربة الأوروبية: لقد فشل الاتحاد الأوروبي في تلبية حاجات دول كبريطانيا، لها تطلعات خارجية، فكانت أول من انسحب، ووضعت بذلك أول مسمار في نعش الاتحاد، وأفشلت التجربة الأوروبية، التي قامت أساساً على حلم تجنيب القارة ويلات الحروب، بواسطة تفاهم دولها على اقتسام الثروات، وهو ما يعبرون عنه دبلوماسياً بوصف الاتحاد بأنه «تجمع اقتصادي». لذلك فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كالقشة التي قصمت ظهر البعير، قد يؤدي إلى تفككه ويعيد القارة إلى سابق عهدها، من تنافس وتناحر على اقتسام الثروات.
كانت فكرة الاتحاد الأوروبي مدفوعة برغبة في إعادة بناء القارة، وإحلال السلام الدائم فيها، والقضاء على احتمال وقوع الحروب الشاملة بين دولها. وقد برزت هذه الفكرة في الخمسينات، من رحم الحرب العالمية الثانية، التي دمرت بلدانها، وقتلت خمسين مليون إنسان، وكانت كارثة حقيقية، على الشعوب والدول الأوروبية كلها.
* التناحر بدل التفاهم: بفهمنا أن غاية إنشاء الاتحاد هي إحلال السلام في أوروبا، نستطيع القول إن تخريبه أو تفكيكه، إن جاز التعبير، بخروج بريطانيا منه، سيعيد وضع القارة إلى ما كان عليه قبل الحرب العالمية الثانية، ويضع دولها ثانية في مواجهة بعضها بعضاً، تتناحر وتتقاتل، كما كان حالها من قبل. فإن حل التناحر محل التفاهم، سيخيم على قارة أوروبا شبح الحروب، مرة أخرى. ما يدل على ذلك أن أطرافاً أوروبية عديدة رحبت بتصويت بريطانيا لصالح الانسحاب، وأبدت توجهاً واضحاً نحو العودة إلى الدولة القومية. ولهذا ربما تنتشر عدوى الخروج من الاتحاد بسرعة كبيرة. وسيذهب أدراج الرياح شعور نصف مليار أوروبي، في 28 بلداً، سيذهب شعورهم بوحدتهم، وهويتهم، وثقافتهم، وتماسكهم، وتناغمهم، وسيصعب عليهم الحفاظ على ما بنوه، خلال ستة عقود مضت.
* إلغاء قانون المجتمعات الأوروبية: صدر قانون المجتمعات الأوروبية، عام 1972، الذي انضمت بموجبه بريطانيا، بزعامة إدوارد هيث، لما يعرف اليوم بالاتحاد الأوروبي. وأعطى ذلك القانون أولوية وسلطة لقوانين الاتحاد على تلك التي تصدر عن البرلمان البريطاني. وهذا بالضبط ما أشارت إليه تيريزا ماي بأن هدف الخروج هو إعادة السيادة للقوانين التي تصدر عن البرلمان البريطاني، وإنهاء سلطة القوانين التي يصدرها البرلمان الأوروبي، فتصبح بذلك سيدة نفسها من جديد. وكأن ماي تقول إن بريطانيا، التي لم يحتلها أو يستعمرها أحد، قد جربت، في الأربعين عاماً الماضية، مرارة الخضوع لقوانين الاتحاد الأوروبي التي قيدت يديها، داخلياً وخارجياً. وستعلن الملكة إليزابيث، بعد ستة شهور، رفع قانون المجتمعات الأوروبية من «كتاب النظام الأساسي»، وهو دستور الدولة في بريطانيا، فيما يشبه التعديل الدستوري الذي يمهد الطريق لاستكمال إجراءات الخروج من الاتحاد الأوروبي، إلى غير رجعة. فلا عجب إذن أن يأتي يوم تحتفل فيه بريطانيا بعيد استقلالها عن أوروبا، فتصبح كباقي الدول، وربما يصبح الإنجليز كباقي البشر.
* إعلامي أردني