حضرت مرة، في التسعينات، مهرجان القاهرة السنوي للإنتاج التلفزيوني، وكانت هي الأولى والأخيرة، أيام كان صفوت الشريف وزيراً للإعلام المصري. كان هدفنا، كشركات إنتاج من خارج مصر، أن نسوق برامجنا الوثائقية، وبرامج الكرتون المدبلج بالفصحى، إلى التلفزيون المصري. ولما حضر الوزير إلى جناح شركتنا عرضنا أمامه ما لدينا من أعمال تلفزيونية يمكن أن يشتريها ويبثها التلفزيون المصري. وقد رحب بذلك وأخذ الورق منا، وطلب من أحد مرافقيه أن يدون ما قلناه، وأظن أنه كان رئيس قطاع الإذاعة والتلفزيون. وأخذ معاليه يتحدث عن ضرورة التكامل بين الدول العربية، وغيره من كلام المجاملات الذي يستدعيه الموقف. وانتهت المقابلة، ولم نسمع لا منه ولا من مرافقه شيئاً لغاية الآن.
«حتى لا يعوج لسان الطفل المصري»
وكنا نتبادل أطراف الحديث، خلال المهرجان، مع الزملاء المنتجين والموزعين عن سبب عزوف مصر عن شراء الإنتاج التلفزيوني العربي، بينما كل العرب يشترون إنتاجها. وأذكر أن أحدهم أخذ يفسر لنا أن عدم شراء التلفزيون المصري للكرتون بالفصحى كان سياسة إعلامية متعمدة. حيث حدث أن أذاع ذات مرة حلقات كرتونية باللغة الفصحى، فأثار ذلك غضب سوزان مبارك زوجة الرئيس السابق حسني مبارك، وأوقفت العمل على الهواء، والتقت بمسؤولي الإعلام وطلبت منهم ألا يعيدوا بث هكذا مواد. والسبب، كما قيل على لسانها، أنها كانت حريصة أن «لا يعوج لسان الطفل المصري» جراء مشاهدة برامج كرتونية بالفصحى!
استهداف الشخصية
تذكرت هذا الكلام وأنا أستمع إلى مقابلة مسجلة مع الدكتورة سهير السكري الخبيرة المصرية في مجال اللغات التي عملت لمدة أربعين عاماً في جامعة جورج تاون الأمريكية وفي الأمم المتحدة. شرحت الخبيرة اللغوية كيف أن نظام التعليم لدينا تعرض لتدخلات من القوى الأوروبية، استهدفت إضعاف شخصية الطفل العربي المسلم، وإبعاده عن اللغة الفصحى، وتشجيع العامية، وشرحت كيف تم ذلك. فقالت إن فرنسا وبريطانيا قبل أن تحتلا البلاد العربية درستا أسباب قوة وصلابة الإنسان العربي المسلم وخلصتا إلى نتيجة مفادها أن نظام التعليم عن طريق «الكتاتيب»، الذي كان سائداً في الماضي، هو سبب قوة الفرد لدينا. حيث كان الناس يبدأون بإرسال أطفالهم إلى الكًتّاب في سن الثالثة، وبحلول السادسة من العمر يكونون قد حفظوا غيباً القران الكريم، المكون من 50 ألف كلمة. وأضافت أن طفل تلك الأيام كان يُمضي سنة بعد ذلك في حفظ ألفية ابن مالك، المكونة من ألف بيت من الشعر، والتي تتضمن كل قواعد العربية. وللمرء أن يتخيل القدرة العقلية والثقافية لطفل بهذه المواصفات، يحفظ في صدره القرآن والشعر، في هذا الوقت المبكر.
إلغاء نظام «الكُتّاب»
المهم أن الأوروبيين أدركوا أن نظام التعليم، المتمثل في «الكُتاب»، هو سر وسبب صلابة شخصية الفرد العربي المسلم ومكمن قوته. وهنا بدأت تدخلاتهم في هذا النظام التعليمي المميز، بهدف إضعاف الشخصية العربية الإسلامية. ثم شرحت تفاصيل تاريخية من التدخلات الأوروبية في التعليم، وردت في كتاب صدر سنة 1979، أي قبل 37 عاماً، بعنوان Militant Islam أو «الإسلام الثوري» لمؤلفه كودفري جايسون.
وقالت إن الفرنسيين كانوا أشد صرامة في التعامل مع الموضوع، حيث قاموا بإلغاء نظام الكُتّاب جملة وتفصيلاً، في المناطق التي كانوا يسيطرون عليها في افريقيا ولبنان وسوريا. أما الإنجليز، فاتبعوا في مصر سياسة مغايرة اعتمدت على تشويه نظام «الكتاتيب» والتقليل من أهميته. وقاموا بإنشاء مدارس لأبناء الأغنياء، وعمموا هذا على باقي البلاد الإسلامية في اندونيسيا وباكستان والهند وغيرها. ثم أقاموا نظام المدارس، كما نعرفه اليوم، والذي يبدأ التعليم فيه من سن السادسة. فكانت النتيجة أن ضاعت من الطفل العربي أهم فترة في حياته التي يتعلم فيها اللغة.
طغيان العامية
كما شجع الأوروبيون في انتشار العامية إلى أن طغت على الفصحى. وهكذا أصبح الطفل العربي المسلم لا يتكلم الفصحى ولا يحفظ القرآن ولا الشعر ويتحدث العامية حتى إذا بلغ السادسة وذهب إلى المدرسة يشعر كأن اللغة العربية الفصحى هي لغة أجنبية. فخسر فرصة تعلمها مبكراً، والأهم كما تقول الخبيرة، إنه خسر الخمسين ألف كلمة من القرآن الكريم، التي كان يحفظها في صدره.
الخلاصة إذن، أن الغرب عرف كيف يصيبنا في مقتل حين استبدل نظامنا التعليمي، وحارب لغتنا، فنجم عن هذا كارثة تمثلت في تخريج شخصية ليست بنفس مواصفات الشخصية السابقة، التي كان يُخرّجُها نظام «الكُتّاب»، وأهم ملامحها تحفيظ القرآن للطفل مبكراً. فلا يمكن النهوض، مما نحن فيه إلا بالارتقاء بأنظمتنا التعليمية، لتعود إلى سابق عهدها في تخّريج طفل بنفس الشخصية التي طمسها الغرب.
* إعلامي أردني