كان المساء مهيباً في تلك الليلة، وكانت مسحة الحزن على الوجوه تشي بكثير من محبة ودعاء بالمغفرة لرجل يزن آلاف الرجال.

رحم الله سمو الشيخ عبدالله بن خالد الذي جمع كل هذه الموجات البشرية المتدافعة بالأكتاف لتقديم العزاء من كل صوب وحدب ومن جميع مناطق البحرين بلا استثناء، جاؤوا مختارين بقلوب حزينة محملين بمحبة غرسها في قلوبهم الراحل الكبير، وها هي الشوارع والطرقات المحيطة بمجلسه تكتظ بالناس والسيارات لا تكاد تجد مكاناً فيها للانتظار!

ها هو مجلسه -برغم الرحيل- عامر بهذه الحشود المعزية كأنه لم يبرح مكانه يرفد الناس علماً وثقافة وتاريخاً وأدباً!

إن بعض منظري الثقافة يقولون لنا إن علي المثقف كي يبدع وجب أن يتفرغ لصنعته! أو يقولون إن المنصب الرسمي لا يحقق الانحياز الكامل لحاجات الجمهور! وآخرون قالوا بوجوب التشاؤم أو اتباع مناهج بعضها يشطح ضد الدين والقيم والأخلاق! فما بالنا ونحن أمام هذا النموذج الفذ من رجالات البحرين الذي أمد الله في عمره حتى أمسى أيقونة للثقافة، ورمزاً للعطاء، ورسالة للمحبة لكل الناس! فبرغم أعبائه الرسمية الكثيرة، وانشغاله الكثيف بكثير من المهام الوطنية الكبرى إلا أنه ظل منغمساً بين الصفوف قريباً من حاجات المجتمع لا تبعده المسافات أو الحواجز!

كان الفقيد رحمه الله خير عنوان للعائلة المالكة الكريمة من حيث قربه بالناس واختلاطه بهم وتلمس حاجاتهم، وهي سمة متجذرة في آل خليفة الكرام الذين يجمعهم خلق التواضع والتحلي بالقيم والأدب الرفيع فكانوا عبر تاريخهم يمثلون قدوات راقية تستحق التأسي والاتباع، ناهيك عن حبهم الشديد للخير وبذله، والمسارعة إلى مظانه في كل ما يغيث الملهوف، ويسد حاجة الفقير، ويشفي المريض، ويسعون لنصرة الحق أينما كان.

كان سمو الشيخ عبدالله بن خالد أول من بادر لإنشاء مكتبة عامة بالمحرق في عام 1954، وهو الذي أسس مركز الوثائق التاريخية، وكان رئيساً لمجلس أمناء مركز عيسى الثقافي، وتبرع له بمكتبته الخاصة ذات الـ13 ألف عنوان، وهو من أصدر مجلة الوثيقة الرصينة وكان رئيس التحرير لها، وكذلك مجلة الهداية، وبرغم المناصب الرسمية التي تقلدها وخاصة مناصب الوزارة إلا أن هذا لم يشغله عن وضع المؤلفات العلمية في تاريخ البحرين والثقافة الإسلامية، فجمع شتات ما تناثر منها في منهج متسق يؤطر لمرحلة جديدة في مجال البحث العلمي التاريخي للبحرين، فأصدر كتابه الموسوم (البحرين عبر التاريخ) من جزأين، ثم تلته كتب أخرى في تاريخ البحرين الحديث، وكان في منهجه الوسطي المتسامح نموذجاً إسلامياً يحتذى به عبر حقب متوالية خبر تحدياتها واستطاع التعامل معها بعلم وحكمة وإخلاص قيض له التفاف القلوب في الداخل والخارج وجنب الكثيرين شطط التحزب الذي ظهر فساده فيما بعد، وقد أطر لذلك في أكثر من مؤلف أوضح فيه رؤاه نحو ما يعترض الواقع الإسلامي من تحديات، أما حبه للقرآن الكريم وأهله فكان من أعظم سماته -رحمه الله- فإبان تقلده وزارة العدل والشؤون الإسلامية انتشرت مراكز التحفيظ في معظم مساجد البحرين، وكم مرة تشرفت بلقائه وخاصة خلال بث صلاة الجمعة من جامع مركز أحمد الفاتح الإسلامي، حيث كان دائم الدعم لبرنامج (أبناء القرآن الكريم) الذي كنت أنتجه إبان عملي بوزارة الإعلام، والحث على الاهتمام بالبرامج الدينية الواعية التي تجمع ولا تفرق، تبني ولا تهدم ، وتؤلف القلوب على كلمة الحق والعدل والسلام، عبر الشيخ -رحمه الله- عن المنهج الذي يضمن للأمة الإسلامية مكانتها بين الأمم، فقال في بداية الألفية الجديدة إننا ندخلها بقلوب مفتوحة برسالة الإسلام القائم على دعوة الحق والخير والسلام بعيداً عن العنف ومحاولات التشويه والوصم بالعنف والإرهاب، فكان عبر سنين عمره رحمه الله مدافعاً عن الدين الحنيف وفق منهج معتدل حيث لا إفراط ولا تفريط، وهذا ما جعل العالم الإسلامي كله وليس البحرين وحدها يسارع للتعبير عن الألم والحزن لفقد أحد رجالاته المخضرمين ورموزه الكبار، رحم الله الشيخ عبدالله بن خالد وأسكنه الفردوس الأعلى جزاء ما قدم للإسلام والمسلمين.