الصين حضارياً تقوم فلسفتها على التواضع، إنه تواضع يمكن القول بأنه أحد مكونات تلك الشخصية الصينية، إنه تواضع يعكس إدراك حقيقة القوة الصينية، وفي نفس الوقت يبعد قياداتها عن الغرور، ومن ثم يجنبها كثيراً من الأخطاء والكوارث والنكبات، إنه تواضع كونفوشيوس الذي كان يعلم المجتمع والقيادات كيفية التركيز على الأولويات، وعلى الحاضر ولا يهتم كثيراً بالماضي، ولا يعيش في المستقبل، فهو يدرك أن الماضي انتهى ولن يعود، وأن المستقبل آتٍ ولا داعي لإضاعة الوقت بالتفكير فيه كثيراً إلا بالمنهج العلمي، وهو بناء القوة البشرية بالفكر والتعليم، ومن هنا كان تركيزه على بناء قوة الحاضر التي تهيئ لقوة الغد على أسس ثابتة ودعائم قوية.
تدريب وتطوير الكوادر هو أحد أسرار تقدم الصين وهو ما يطلق عليه في عالمنا المعاصر ببناء الموارد البشرية، فالتقدم يصنعه البشر، ويحافظون عليه، فهو لمصلحتهم ولمصلحة الأجيال القادمة، والبشر معطاء، وصاحب معجزات كامنة، إذا أطلقت له قواها وملكاته الفكرية، وهو أداة تراجع وفشل وإخفاق، إذا خضع للقهر والكبت والقولبة. الصين قامت على أساس مبدأ التوازن بين إطلاق الطاقات الإبداعية وبين القولبة الإيديولوجية، لأن ترك العنان للقرار الفردي للإنسان عندما يكون عدد السكان حوالي 1.3 مليار نسمة سوف يؤدي للفوضى، أما الإبداع الحقيقي فهو يعتمد على النظام والانضباط، ولأن الانحراف هو إحدى سمات البشر، ومن ثم لابد من معاقبة المنحرف كما لابد من مكافأة من يجيد ويبدع ويعمل، ومن هنا كان دور لجنة الانضباط الحزبي، ولكن الصين وشعبها ليسوا كلهم شيوعيين، فالحزب لا يزيد عن 90 مليون نسمة، ويقال إن عدده يتناقص الآن، ومن ثم فهو مجرد طليعة ويعمل في إطار فلسفة خاصة في إدارته للموارد البشرية، ووصوله للسلطة عبر العمل الإداري والحزبي برقابة ثنائية، أو بالسير على قدمين القدم الإدارية والقدم الحزبية، وكلاهما يعملان بتناغم وتوافق وأحياناً بتصارع وتنافس، ومن هنا يمكن اكتشاف الأخطاء والانحرافات والفساد الذي ارتبط بعدد من قيادات الحزب، ونتيجة ضعف الانضباط حيناً وتحت إغراء السلطة حيناً ثانياً وتطلعات البشر حيناً ثالثاً..
الثالثة: إن من أهم التحديات التي تواجه الصين المعاصرة هي الفجوة بين الريف والحضر وبين المناطق المتقدمة مثل شنغهاي وشنجن وبين المناطق المتخلفة في أقاليم الصين الغربية والوسطى وبخاصة شمال غرب الصين، وغرب الصين حيث مناطق الأقليات القومية التي لم تندمج بصورة كاملة في الحضارة الصينية ولم تستفد بالقدر الكافي من ثمرات التقدم ولذلك تشعر أحياناً بغربة.
الرابعة: ضرورة استمرار العمل، من أجل الحفاظ على التماسك الوطني، وهذا يستدعي المشاركة في السلطة والثروة ونتائج التقدم، أن الصين بها 56 قومية ولكن قومية واحدة هي قومية الهان Han تبلغ نسبتها 91-92% في حين القوميات الـ55 تبلغ فقط 8%، ومن وجهة نظري أن الكبير والقائد لابد أن يعطي الآخرين، ومن هنا فإن المزيد من مشاركة كافة القوميات ضرورة للحفاظ على وحدة الصين وقوتها، وعدم إتاحة الذرائع للأجنبي للعب على وتيرة المعاناة، ومن ثم إثارة القلاقل. إن أعداء الصين يتربصون بها، ولابد أن تعي القيادة الجديدة هذا الخطر الكامن، إنه طبيعة الصراع الدولي، وعندما أهمل الاتحاد السوفيتي السابق دول آسيا الوسطى ودول شرق أوروبا، فإن تلك الدول قفزت من السفينة السوفيتية، فاهتز توازنها فغاصت في أعماق البحر، وعلى القيادة الصينية ألا تقع في أخطاء ماوتسي تونج بالمبالغة في الثورية، أو أخطاء الاتحاد السوفيتي السابق بإهمال القوميات الأخرى، والتركيز فقط على البعد الثقافي والفلكلوري الخاص بها، وخاصة القوميات ذات الأعداد الكبيرة، فهي ضرورة لاستمرار تماسك الصين وقوتها ونهضتها، وتمثل إثراء نوعياً للصين.
الخامسة: إن القيادة الجديدة تسعى لتحقيق حلم الصين في نهضة الأمة، وقوة الدولة، وتحقيق رفاهية الشعب، وهو هدف نبيل، ولابد من وضع الآليات المناسبة ومراقبة التنفيذ. إن نهضة الأمة وقوة الدولة تتطلب تضافر جهود أبناء قومية الهان Han مع أبناء القوميات الأخرى، والكبير يمكنه أن يستوعب القوميات الأصغر، وهذا هو المنهج الذي يحقق للصين تقدماً وتماسكاً. وهذا هو سر تقدم الصين المعاصرة، وعليها أن تبني على تلك الأسس للحفاظ على إنجازاتها.
وختاماً نقول إن منهج جمعية التفاهم الدولي المنظمة النابعة من حضن الحزب الشيوعي، هو منهج سليم في تعريف شعوب العالم بالصين وحضارتها وتقدمها، إن الصين تتعامل مع العالم المعاصر بالقوة الناعمة، وعليها أن تستمر كذلك، بالتجارة والاستثمار والثقافة، والتعاون والتفاعل الحضاري، ولكن عليها ألا تنسى بناء القوة الصلبة لاستخدامها في واجب الدفاع عن ترابها الوطني ووحدتها الإقليمية. وعلى قيادة الصين الحديثة الالتزام بتقاليدها في عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، ولكن في نفس الوقت عليها مسؤولية خاصة نابعة من كونها عضواً دائم العضوية في مجلس الأمن الذي يولي اهتماماً لحقوق الإنسان، وحق الشعوب في اختيار نظمها السياسية والاقتصادية والمجتمع. إن الصين أصبحت تؤمن بمبدأ تناوب السلطة فلا ينبغي لها أن تناصر من يقتل شعبه بأسلحة الدمار الشامل ليظل في السلطة إلى الأبد رغم مطالب شعبه.