صنع الله إبراهيم

سألني أستاذنا الكبير يحيى حقي، عندما التقيت به أخيرا في إحدى المناسبات، عما إذا كنت أذكر النقد الذي وجهه إلى روايتي الأولى (تلك الرائحة) عقب نشرها أول مرة في فبراير 1966. وعندما أجبت بالإيجاب سألني عن رأيي الآن، بعد مرور عشرين سنة، في نقده، وفي روايتي عموما.

في تلك اللحظة كنت قد أوشكت أن أنسى كثيرا من تفاصيل الرواية. فقد مرت سنوات طويلة منذ قرأتها لآخر مرة. فليس من عادتي أن أعود إلى ما سبق لي كتابته. فمثل هذه القراءة تثير مللي، إن لم تكن مصدرا للشعور بالاحباط. أما النقد الذي وجهه الأستاذ يحيي حقي للرواية، فلم أنسه أبدا!.

كان الأستاذ يحيى حقي من الذين أهديتهم إحدى النسخ. وكنت قد تعرفت إليه قبل شهور، عقب خروجي من السجن في منتصف 1964. فذهبت إليه في مجلة "المجلة" التي كان يرأس تحريرها، فاتحا أبوابه أمام كافة الكتاب والجدد منهم بوجه خاص، تاركا لهم المكتب الخشبي الثمين الذي يتصدر غرفته، مكتفيا بمقعد جلدي مريح إلى جانبه. وفي أول لقاء حملت إليه عرضا لأحدث كتب الناقد الإنجليزي ستيفن سبندر. وجلست أقرأ المقال عليه وهو ينصت باهتمام، ويدرسني بعينيه الذكيتين، مصححا لي في رفق ما ارتكبته من أخطاء فادحة في المنطق. وعندما فرغت من القراءة، أعلن لي قبوله للمقال. وكان أول شيء ينشر لي بعد خروجي من السجن وحصلت من ورائه على عشرة جنيهات تكفلت بنفقاتي لمدة شهر.

ذهبت إليه بنسخة من "تلك الرائحة" فتناولها مني بحفاوة بالغة، وبعد أن تبين العنوان قال مجاملا، أن الغرفة أوشكت أن تعبق بالعبير الزكي الذي يفوح منها!.

ولم تمض أيام حتى صحح الأستاذ الكبير غلطته بمقال عنيف في عموده بجريدة "المساء" قال فيه: "لا زلت أتحسر على هذه الرواية القصيرة التي ذاع صيتها أخيرا في الأوساط الأدبية وكانت جديرة بأن تعد من خيرة إنتاجنا لولا ان مؤلفها زل بحماقة وانحطاط في الذوق فلم يكتف بأن يقدم إلينا البطل وهو منشغل بجلد عميرة (لو اقتصر الأمر على هذا لهان)، لكنه مضى فوصف لنا أيضا عودته لمكانه بعد يوم ورؤيته لأثر المني الملقى على الأرض. تقززت نفسي من هذا الصوف الفزيولوجي تقززا شديدا لم يبق لي ذرة قدرة على تذوق القصة رغم براعتها. إنني لا أهاجم أخلاقياتها، بل غلطة إحساسها وفجاجته وعاميته. هذا هو القبح الذي ينبغي محاشاته، وتجنيب القاريء تجرع قبحه".

كان كاتبنا الكبير يسألني إذن عن موقفي مما أسماه في ذلك المقال بالتعبير الفيزيولوجي. لكن ذهني انصرف أثناء الحديث معه عن تجربتي كلها. فأجبته بأني أشعر كما لو أني قد بدأت الآن فقط في تعلم الكتابة. فكل كتاب جديد لي يكشف عن جانب كنت أجهله من هذا الفن، يزيد من إدراكي لحدود إمكانياتي ولنقاط الضعف والعجز لدي، كما يضاعف من تقديري لعتاولة الكتاب الذين يقتحمون الورق مسلحين بأدوات عدة قبضوا على ناصيتها بإحكان شديد. ولم يكن هذا شعوري عندما بدأت أولى خطواتي، وهو ما أعتبره أمرا طبيعيا.

مجلة كلمات العدد السابع 1986