أربعون عاماً وهي عاقر، تلهث خلف سراب الولادة التي لم تأتِ رغم ضياع العمر. تتمنى المسكينةُ أن تحمل بولدها الذي سيعينها على «كَبرَتها»، ويؤنس وحشتها خاصة بعد أن قررت التقاعد من وظيفتها، وإمعان زوجها في إهمالها، حتى صار يقرفها ولا يطيق سماع صوتها، ولا يعود إلى المنزل إلا في آخر الليل، حتى أنه لم يعد يعنيه إن هي حملت بولده أم لم تحمل، فأكثر ما يهمه كأس تنسيه قسوة الأقارب وتندر الأباعد.
شقّت الحزينة الأيام والسنين وتعاقب الليل والنهار، تستبطن وَهمَ الألم والإنجاب العقيم، فقط لتداري عجزها. جربت كل الأدوية والعقاقير لكن دون جدوى، حتى أنها صارت تقتطع جزءاً من يومها تمضيه في الجلوس بالحديقة العامة لتنسى أحزانها وتهرب من سيل الأفكار الذي يداهمها كلما دخلت المنزل. تتصفح الوجوه وتراقب النساء الحوامل في ممشى الحديقة وتتخيل أنها واحدة مثلهن، وتتحسس بطنها الفارغة، وتحمل في أحشائها فلذة كبدها، وتبتسم كما يبتسمن ابتهاجاً بالمولود القادم.
تذكرت أول زيارة للطبيب لتسأله عن تأخر حملها، وهي لا تزال صبية في أواخر العشرين، وكانت ترى في كلامه بريق أمل بالإنجاب فهي ما زالت صغيرة وإن نساء يكبرنها سناً حملن وأنجبن، لكن مع هذا كان قلبها «يدقها» وتشعر أن طبيبها لا يقول لها الحقيقة، وأنه يستنزف أموالها ليس أكثر، غير أنها ظلت مستسلمة لروايته لترى فيها الأمل الوحيد بعد أن صدمها الأطباء الآخرون بعدم قدرتها على الإنجاب.
لم تقنط لكلام الأطباء، وحاولت أن تروّح عن نفسها بين حين وآخر. تمشي في الشوارع والأزقة ترقب الأطفال بصحبة ذويهم، تتفحص واجهات المحال الزجاجية التي تعرض ملابس ومستلزمات المواليد، تدخل المكان وتتلمس الأشياء بيديها وتقلبها أي الألوان أجمل، تسأل عن أسعارها، وتسأل نفسها: هل سأكون أماً يوماً ما؟ وكان هذا يبعث البهجة في روحها الحزينة.
تعود إلى البيت الخانق تجلس على شرفته تتأمل وجوه الصغار المتراكضين في الطرقات وهم في غمرة الفرح، وضحكاتهم ترفرف في الأرجاء، وتلوح لهم بيدها، شغوفة بحركة مماثلة يبادلونها بها. يمضون في طريقهم من دون أن ينتبهوا، وتودعهم بنظرة حزينة ممزوجة بآهات ساخنة وعينين مغرورقتين.
تقول في نفسها لو أن عندي طفلاً واحداً يشبههم، ويشبهني لصرت أسعد الناس، لو أنه يأتي .. يأتي فقط، أحمله ويحملني، يكون لي بمنزلة الماء والنار معاً، الليل والنهار، الحياة والموت التي لا يتشكل الزمان بغيرها، فهو أنا وأنا له، وهو زماني الذي ليس بعده زمان، وهل تتغير الأزمنة، .. أسميه بأجمل الأسماء وأحسن الصفات، أختار له أبهى الملابس، أسهر لمرضه، وأتألم إن هو شكا، أو قال «أميييي» .. أذهب به إلى أشهر الأطباء، وسأكون بقربه ويكون بقربي ولن أعيش وحيدة بعد الآن ..
تمشي في شوارع المدينة العابسة ساعات طوال تفتش عن نفسها التائهة، بقيت سنوات على هذه الحال، تمشي وتمشي فقط. تقرر فجأة أن تعرّج على حديقتها التي تذكرّها دوماً أنها «امرأة ناقصة»، ليست كباقي النساء، يحملن متى أردن ويضعن متى شئن، الحديقة مزدحمة هذه المرة على غير العادة، باعة يتجولون ويحملون البالونات الملونة وحلوى غزل البنات، وأصوات الصغار الندية تملأ المكان، تذكرت أن اليوم هو مهرجان الألعاب البهلوانية الذي أعلنت عنه إدارة البلدية الأسبوع الفائت. جلست على مقعد بقرب شجرة وارفة، وراحت تراقب حركات الصغار وضحكاتهم البريئة، تغازلهم بعينيها متجاهلة نظرات أمهاتهم المتسائلة عن حالها..
سمعت نسوة في المقعد المجاور يتهامسن: «إياك، إن فعلتي ذلك ستندمين، فمن جربن هذا ندمن أشد الندم. وقالت ثانية: لا ليس الأمر كما تتخيلين أن الأطفال زينة الحياة الدنيا، ودور الأيتام نعمة لمن حرم نعمة الأمومة، وهناك كثيرات تبنين أطفالاً وصارت حياتهن أسعد، فلما لا؟. وردت أخراهن على أولاهن متسائلة: لما كل هذا التحامل، هم أطفال حرموا من أهليهم، لا ذنب لهم أن الجميع تخلى عنهم، وتركوهم وحيدين لقسوة الزمن.
قالت لنفسها نعم لما لا؟ .. وسأكون أمه التي لم تنجبه وسيكون الولد البار ولا غنى له عني ولا غنى لي عنه، غير أنها ظلت غير متأكدة من رغبتها تلك. ورجعت إلى منزلها في حال أسوأ مما كانت عليه.
عاد زوجها في المساء، وطرحت عليه الفكرة بلهفة، لكنه لم يسمعها وربما تجاهلها، وكررت المحاولة، غير أنه صك الباب في وجهها، وهي صكت وجهها بكلتا راحتيها وراحت تنتحب بصوت متحشرج وتردد: لن أكون بعد اليوم «امرأة ناقصة» .. لن أكون امرأة عاقر ..
اختلطت الأحاسيس لديها، لكنها حسمت أمرها وقررت الذهاب إلى دار الأيتام في المدينة لتسأل عن طفل تتخذه ولداً، وفضلت أن يكون رضيعاً، كي يكبر على عينها، وتراقب تغير ملامحه الصغيرة، وأن تطرب لمناغاته البريئة لتشعر بأمومتها له. وجدت أخيراً الابن الذي طالما تاقت لرؤيته، وعاملته كما لم تفعل أم من قبل، فهي اليتيمة التي عثرت فيه على بقاياها وبعض من شتات أهلها، والحنين الذي حرمت منه بعد أن تزوجت في عمر مبكرة.
لم تغادر «أم رجا» منزلها بعد ذلك اليوم، هكذا قررت أن تسميه، وظلت مشغولة بطفلها الجديد وحكمت على نفسها بالعزلة، حتى زوجها لم تعد تراه وإن كان أمام عينيها، فسعادتها اكتملت بعد ضياع العمر الطويل، وهجران الزوج القريب، لا تريد أن ترى بغير عيني صغيرها المدلل وهو يكبر أمام ناظريها، وتصطحبه معها كلما قررت الخروج، تشتري له أجمل الملابس وأطيب الشوكلاتة التي يشتهيها، هي تتخيله رجلاً يمشي في الأسواق ويتبضع لها حاجات بيتهما السعيد.
كبر رجا وكبرت معه آلام الأم. لم يدر في خلدها أنها ستستيقظ يوماً على أسئلة الطفولة الصعبة التي ليس بالوسع الإجابة عنها. من أنا .. من هذا الرجل الذي في البيت، لماذا يعاملني كطفل غريب وليس ابنه، أصدقيني القول من أنا .. لماذا لا يشبهني ولا أشبه .. لماذا لا أشبهكما .. من أنا ..
أيقنت ذلك المساء أنها ثكلى وأنها فقدته حقاً.
{{ article.visit_count }}
شقّت الحزينة الأيام والسنين وتعاقب الليل والنهار، تستبطن وَهمَ الألم والإنجاب العقيم، فقط لتداري عجزها. جربت كل الأدوية والعقاقير لكن دون جدوى، حتى أنها صارت تقتطع جزءاً من يومها تمضيه في الجلوس بالحديقة العامة لتنسى أحزانها وتهرب من سيل الأفكار الذي يداهمها كلما دخلت المنزل. تتصفح الوجوه وتراقب النساء الحوامل في ممشى الحديقة وتتخيل أنها واحدة مثلهن، وتتحسس بطنها الفارغة، وتحمل في أحشائها فلذة كبدها، وتبتسم كما يبتسمن ابتهاجاً بالمولود القادم.
تذكرت أول زيارة للطبيب لتسأله عن تأخر حملها، وهي لا تزال صبية في أواخر العشرين، وكانت ترى في كلامه بريق أمل بالإنجاب فهي ما زالت صغيرة وإن نساء يكبرنها سناً حملن وأنجبن، لكن مع هذا كان قلبها «يدقها» وتشعر أن طبيبها لا يقول لها الحقيقة، وأنه يستنزف أموالها ليس أكثر، غير أنها ظلت مستسلمة لروايته لترى فيها الأمل الوحيد بعد أن صدمها الأطباء الآخرون بعدم قدرتها على الإنجاب.
لم تقنط لكلام الأطباء، وحاولت أن تروّح عن نفسها بين حين وآخر. تمشي في الشوارع والأزقة ترقب الأطفال بصحبة ذويهم، تتفحص واجهات المحال الزجاجية التي تعرض ملابس ومستلزمات المواليد، تدخل المكان وتتلمس الأشياء بيديها وتقلبها أي الألوان أجمل، تسأل عن أسعارها، وتسأل نفسها: هل سأكون أماً يوماً ما؟ وكان هذا يبعث البهجة في روحها الحزينة.
تعود إلى البيت الخانق تجلس على شرفته تتأمل وجوه الصغار المتراكضين في الطرقات وهم في غمرة الفرح، وضحكاتهم ترفرف في الأرجاء، وتلوح لهم بيدها، شغوفة بحركة مماثلة يبادلونها بها. يمضون في طريقهم من دون أن ينتبهوا، وتودعهم بنظرة حزينة ممزوجة بآهات ساخنة وعينين مغرورقتين.
تقول في نفسها لو أن عندي طفلاً واحداً يشبههم، ويشبهني لصرت أسعد الناس، لو أنه يأتي .. يأتي فقط، أحمله ويحملني، يكون لي بمنزلة الماء والنار معاً، الليل والنهار، الحياة والموت التي لا يتشكل الزمان بغيرها، فهو أنا وأنا له، وهو زماني الذي ليس بعده زمان، وهل تتغير الأزمنة، .. أسميه بأجمل الأسماء وأحسن الصفات، أختار له أبهى الملابس، أسهر لمرضه، وأتألم إن هو شكا، أو قال «أميييي» .. أذهب به إلى أشهر الأطباء، وسأكون بقربه ويكون بقربي ولن أعيش وحيدة بعد الآن ..
تمشي في شوارع المدينة العابسة ساعات طوال تفتش عن نفسها التائهة، بقيت سنوات على هذه الحال، تمشي وتمشي فقط. تقرر فجأة أن تعرّج على حديقتها التي تذكرّها دوماً أنها «امرأة ناقصة»، ليست كباقي النساء، يحملن متى أردن ويضعن متى شئن، الحديقة مزدحمة هذه المرة على غير العادة، باعة يتجولون ويحملون البالونات الملونة وحلوى غزل البنات، وأصوات الصغار الندية تملأ المكان، تذكرت أن اليوم هو مهرجان الألعاب البهلوانية الذي أعلنت عنه إدارة البلدية الأسبوع الفائت. جلست على مقعد بقرب شجرة وارفة، وراحت تراقب حركات الصغار وضحكاتهم البريئة، تغازلهم بعينيها متجاهلة نظرات أمهاتهم المتسائلة عن حالها..
سمعت نسوة في المقعد المجاور يتهامسن: «إياك، إن فعلتي ذلك ستندمين، فمن جربن هذا ندمن أشد الندم. وقالت ثانية: لا ليس الأمر كما تتخيلين أن الأطفال زينة الحياة الدنيا، ودور الأيتام نعمة لمن حرم نعمة الأمومة، وهناك كثيرات تبنين أطفالاً وصارت حياتهن أسعد، فلما لا؟. وردت أخراهن على أولاهن متسائلة: لما كل هذا التحامل، هم أطفال حرموا من أهليهم، لا ذنب لهم أن الجميع تخلى عنهم، وتركوهم وحيدين لقسوة الزمن.
قالت لنفسها نعم لما لا؟ .. وسأكون أمه التي لم تنجبه وسيكون الولد البار ولا غنى له عني ولا غنى لي عنه، غير أنها ظلت غير متأكدة من رغبتها تلك. ورجعت إلى منزلها في حال أسوأ مما كانت عليه.
عاد زوجها في المساء، وطرحت عليه الفكرة بلهفة، لكنه لم يسمعها وربما تجاهلها، وكررت المحاولة، غير أنه صك الباب في وجهها، وهي صكت وجهها بكلتا راحتيها وراحت تنتحب بصوت متحشرج وتردد: لن أكون بعد اليوم «امرأة ناقصة» .. لن أكون امرأة عاقر ..
اختلطت الأحاسيس لديها، لكنها حسمت أمرها وقررت الذهاب إلى دار الأيتام في المدينة لتسأل عن طفل تتخذه ولداً، وفضلت أن يكون رضيعاً، كي يكبر على عينها، وتراقب تغير ملامحه الصغيرة، وأن تطرب لمناغاته البريئة لتشعر بأمومتها له. وجدت أخيراً الابن الذي طالما تاقت لرؤيته، وعاملته كما لم تفعل أم من قبل، فهي اليتيمة التي عثرت فيه على بقاياها وبعض من شتات أهلها، والحنين الذي حرمت منه بعد أن تزوجت في عمر مبكرة.
لم تغادر «أم رجا» منزلها بعد ذلك اليوم، هكذا قررت أن تسميه، وظلت مشغولة بطفلها الجديد وحكمت على نفسها بالعزلة، حتى زوجها لم تعد تراه وإن كان أمام عينيها، فسعادتها اكتملت بعد ضياع العمر الطويل، وهجران الزوج القريب، لا تريد أن ترى بغير عيني صغيرها المدلل وهو يكبر أمام ناظريها، وتصطحبه معها كلما قررت الخروج، تشتري له أجمل الملابس وأطيب الشوكلاتة التي يشتهيها، هي تتخيله رجلاً يمشي في الأسواق ويتبضع لها حاجات بيتهما السعيد.
كبر رجا وكبرت معه آلام الأم. لم يدر في خلدها أنها ستستيقظ يوماً على أسئلة الطفولة الصعبة التي ليس بالوسع الإجابة عنها. من أنا .. من هذا الرجل الذي في البيت، لماذا يعاملني كطفل غريب وليس ابنه، أصدقيني القول من أنا .. لماذا لا يشبهني ولا أشبه .. لماذا لا أشبهكما .. من أنا ..
أيقنت ذلك المساء أنها ثكلى وأنها فقدته حقاً.