ما أعجب ما يحدث للإنسان عندما يتقدم به العمر ويدخل عتبة الكهولة، وتبدأ أيامه تتلاشى أمامه، وتنعدم واحداً واحداً، وهو في غفلة منها، تماماً مثلما تتسرب حبات الرمل الصغيرة من بين أصابع اليد. الثواني والدقائق والساعات في مسيرته الطويلة تخذله فجأة من دون أن يتفطن لها وتصير سِفراً في ملكوت الذاكرة، وجزءاً من رماد السنين بعد أن كانت زهرة الياسمين.
ينطفئ لونه، ويصطبغ شعره ببياض الشيب، ويتهدل جلده، وتسكن أخاديد التجاعيد خدوده، ويتراجع نشاطه، وتثبط عزيمته، وقد يفزع إذا هلك واحد من أقرانه، وهذا كله ليس طارئ موقوت أو لحظة عابرة، بل شرط الطبيعة المؤجل، ومصيره المحتوم الذي يستقبله طائعاً مستسلماً لا راد له، فيبحث عن طريقة يداري بها زمانه المتولد، وحيلة يحتال بها على علامات الكبر التي تغزو تقاسيمه الهشة.
يدخل عالم الحداثة بكل صورها، رغم شريط الذكريات التي تسكنه وتشده إلى الوراء، حيث الابتكارات والاختراعات لا تتوقف. من ثورة الإنترنت الجارفة وحتى صرعات الجمال والجاذبية باهظة الثمن، مثل «البوتكس»، «الفيلر» و«الليزر»، ومشتقاتها، وكذلك الرياضة الشاقة، لحرق الدهون، والبحث عن الرشاقة، - أي نمط حياة قاسٍ وصعب،- كل ذاك هو البيت الذي ستولد فيه أفكاره الجديدة، وسيحلّق فيه بعيداً وسيرتحل في فضاءاته الفاتنة.
وكان حقاً عليه أن يفكر كيف سيكون بعد أن يتماهى مع تأثيرات الحياة الصاخبة، ويعيش جوها وأجواءها، ليعود شاباً بعد أن يطرد عنه الشيبة، فلا ضير من عملية تجميل سريعة تعيد له صباه، وتحقق له مبتغاه، رغم خواء الروح الذي يلازمه دوماً ويذكّره أنه «كهل»، مهما تزيّن وتجمّل. لكن خاب تدبيره، وأصيب بخيبة أمل، فليس من اليسير التعايش مع حياة الألوان العبثية، مع مرور الزمن، فهي لا تواتيه ولا تلبي آماله بحياة البساطة والعيش الهانئ الهادئ كالتي كانت وانقضت، فخراب العمر يكون بفقدان الماضي وهجران «الذاكرة الشمس»، التي تنير وتلون، بالدفء والحنين، وتنقلك إلى مراحل مضت من عمرك، حتى لو أخذت دورة الزمن دورها ومدارها.
هو في حاضره المتوقف، يتقلب بين زمانيه، كأنه من «أهل الأعراف»، يكابد الشوق إلى ماضٍ لن يعود إلا في شريط الصور، ويحاول أن يساير حياته المليئة بالتناقضات وعلامات الاستفهام. لم يفارقه عيش الطفولة الدافئة، وأنسامها الندية، وهي تذكره دوماً أنه موجود ومنبت الأصل، وتدغدغ فيه أعماقه القاحلة، ويخالجه شعور عارم بالحنين إلى سيرته الأولى التي تنبعث منها الأطياف البعيدة وما برحت تجدد فيه لواعج الاشتياق، وتُطبع في مخيلته كوشم يصعب نزعه.
يتوق أن يطبع زمانه الجديد بصورة عهده القديم، صدق المشاعر، بساطة العيش، هناء الروح، الصحبة القديمة، صياح الصغار في الحارة، رسائل العيون، العشق الخجول، يريد أن يخرج من محبسه الجديد ويعود إلى حريته القديمة، لكن هيهات هيهات.
يدخل في برزخ زمانه، الجنة والجحيم، الماء والنار، الليل والنهار، ماضيه البعيد وحاضره القريب، ويحاول جاهداً أن يوازن ويبحث عن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، من العمر المتخلَّق - من الخلق - الذي يأمل أن يخطه بالتجربة ويصنعه بالحكمة مع أنه مكتمل هناك في علم الغيب وحتمية المصير، بكل شؤونه وشجونه، لا يطلع عليه إلا بقدر ما قيض له.
يشعر بشوق إلى الانعتاق من عمره بصورته الماثلة لينفذ إلى روحه البعيدة وخواطره الخفية، ليبحث عن معناه الآخر ويثبت ذاته الغائبة مرة أخرى، فالروح المثقلة بالأسى في نصفها الأول لا يواسيها شيء مثل العودة إلى نصفها الثاني، فالماضي والمستقبل كلاهما صورة معكوسة لصفحة واحدة في برزخ العمر. أدرك أن لا نجاة من «المستقبل المستحيل» إلا بالهروب إلى «الماضي الأم» الذي لم يغادره أصلاً.
{{ article.visit_count }}
ينطفئ لونه، ويصطبغ شعره ببياض الشيب، ويتهدل جلده، وتسكن أخاديد التجاعيد خدوده، ويتراجع نشاطه، وتثبط عزيمته، وقد يفزع إذا هلك واحد من أقرانه، وهذا كله ليس طارئ موقوت أو لحظة عابرة، بل شرط الطبيعة المؤجل، ومصيره المحتوم الذي يستقبله طائعاً مستسلماً لا راد له، فيبحث عن طريقة يداري بها زمانه المتولد، وحيلة يحتال بها على علامات الكبر التي تغزو تقاسيمه الهشة.
يدخل عالم الحداثة بكل صورها، رغم شريط الذكريات التي تسكنه وتشده إلى الوراء، حيث الابتكارات والاختراعات لا تتوقف. من ثورة الإنترنت الجارفة وحتى صرعات الجمال والجاذبية باهظة الثمن، مثل «البوتكس»، «الفيلر» و«الليزر»، ومشتقاتها، وكذلك الرياضة الشاقة، لحرق الدهون، والبحث عن الرشاقة، - أي نمط حياة قاسٍ وصعب،- كل ذاك هو البيت الذي ستولد فيه أفكاره الجديدة، وسيحلّق فيه بعيداً وسيرتحل في فضاءاته الفاتنة.
وكان حقاً عليه أن يفكر كيف سيكون بعد أن يتماهى مع تأثيرات الحياة الصاخبة، ويعيش جوها وأجواءها، ليعود شاباً بعد أن يطرد عنه الشيبة، فلا ضير من عملية تجميل سريعة تعيد له صباه، وتحقق له مبتغاه، رغم خواء الروح الذي يلازمه دوماً ويذكّره أنه «كهل»، مهما تزيّن وتجمّل. لكن خاب تدبيره، وأصيب بخيبة أمل، فليس من اليسير التعايش مع حياة الألوان العبثية، مع مرور الزمن، فهي لا تواتيه ولا تلبي آماله بحياة البساطة والعيش الهانئ الهادئ كالتي كانت وانقضت، فخراب العمر يكون بفقدان الماضي وهجران «الذاكرة الشمس»، التي تنير وتلون، بالدفء والحنين، وتنقلك إلى مراحل مضت من عمرك، حتى لو أخذت دورة الزمن دورها ومدارها.
هو في حاضره المتوقف، يتقلب بين زمانيه، كأنه من «أهل الأعراف»، يكابد الشوق إلى ماضٍ لن يعود إلا في شريط الصور، ويحاول أن يساير حياته المليئة بالتناقضات وعلامات الاستفهام. لم يفارقه عيش الطفولة الدافئة، وأنسامها الندية، وهي تذكره دوماً أنه موجود ومنبت الأصل، وتدغدغ فيه أعماقه القاحلة، ويخالجه شعور عارم بالحنين إلى سيرته الأولى التي تنبعث منها الأطياف البعيدة وما برحت تجدد فيه لواعج الاشتياق، وتُطبع في مخيلته كوشم يصعب نزعه.
يتوق أن يطبع زمانه الجديد بصورة عهده القديم، صدق المشاعر، بساطة العيش، هناء الروح، الصحبة القديمة، صياح الصغار في الحارة، رسائل العيون، العشق الخجول، يريد أن يخرج من محبسه الجديد ويعود إلى حريته القديمة، لكن هيهات هيهات.
يدخل في برزخ زمانه، الجنة والجحيم، الماء والنار، الليل والنهار، ماضيه البعيد وحاضره القريب، ويحاول جاهداً أن يوازن ويبحث عن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، من العمر المتخلَّق - من الخلق - الذي يأمل أن يخطه بالتجربة ويصنعه بالحكمة مع أنه مكتمل هناك في علم الغيب وحتمية المصير، بكل شؤونه وشجونه، لا يطلع عليه إلا بقدر ما قيض له.
يشعر بشوق إلى الانعتاق من عمره بصورته الماثلة لينفذ إلى روحه البعيدة وخواطره الخفية، ليبحث عن معناه الآخر ويثبت ذاته الغائبة مرة أخرى، فالروح المثقلة بالأسى في نصفها الأول لا يواسيها شيء مثل العودة إلى نصفها الثاني، فالماضي والمستقبل كلاهما صورة معكوسة لصفحة واحدة في برزخ العمر. أدرك أن لا نجاة من «المستقبل المستحيل» إلا بالهروب إلى «الماضي الأم» الذي لم يغادره أصلاً.