أيامَ انتشار الأميةِ في مُعظمِ البلادِ العربيةِ كانت توجد في بعض الأقطار وظيفةٌ فرضها واقعُ هذه الأمية، وهي وظيفة «الكاتب العمومي» الذي يكتب الرسائل والمطالب والشكاوى للجمهورِ الأميِّ، لذلك ُسميَ كاتباً، شأنه في ذلك شأن الكاتب الصحفيّ والكاتب الأدبيّ، طالما أنَّ كليهما يكتبُ.
اليوم انحسرت الأميةُ بشكلٍ كبيرٍ في معظمِ بلداننا، فاختفت أو كادت مهنةُ «الكاتب العمومي»، وتمحَّضت الصِّفةُ اليومَ للكاتب الصحفيِّ أو الأدبيِّ أو الثقافيِّ عامةً. فكثر الكُتَّاب كثرةً غير مسبوقةٍ، ولكن مع هذه الكثرةِ قلَّت «البركةُ»، وصار بعض الكتابةِ أقل قيمةً وجماليةً ومعنى مما كان يكتبه الكاتبُ العموميُّ في الرسائل نيابةً عن الجمهور الأميِّ. فكثيرٌ مما يُنشرُ مجردُ «كلامٍ فارغٍ» ينتحل صفة الأدبِ، وباتوا يُطلقون عليه مُسمَّى «نصوص» تجنباً لتسميةِ الأشياءِ بأسمائِها المطابقةِ للواقع، كـ«الهراء» أو «الثرثرة» أو «الهذيان».
وليست هذه هي المشكلة الوحيدة فحسب، فقد سمحت تحولات النشر والتسويق للجميعِ أن يكسِرُوا طوقَ الحصاراتِ، وأن ينشرُوا ما يريدون نشرَهُ، من دون قيدِ أو شرطٍ، ولكنَّ المشكلةَ تكمنُ في استشراء ثقافةِ الادِّعاء الملازمةِ للهراءِ، وانتحال صفةِ الأدبِ لمجرد النَّشرِ، حتى كأنَّ النَّشر بات مطابقاً للإبداعِ، ومفتاحاً للدخول إلى عالمِه. في حين أن الكتابةَ الأدبيةَ تضعُنا مباشرةً إزاءَ الأسلوبِ والخلقِ. فهي «فن جميل يتوسَّلُ اللُّغةَ» عند طه حسين، «وهي: تعبيرٌ كتابيٌّ شخصيٌّ، يعتمدُ على الابتكارِ ويستخدمُ فيه الكاتبُ فكرَه ولغتَه وخيَالَهُ، لخلق قطعةِ حياةٍ فنية تضجُّ بحيويّة العيشِ» كما يعرفها طالب الرفاعي.
إنَّ الكتابةَ الأدبيةَ في نظري تتعدَّى حدودَ المعنى المُجردَ للكلامِ، لتلامسَ حدودَ الذَّواتِ وتخيلاتِها وتهويماتها؛ لأنها تنشأُ داخلَ حقلٍ تخيّليٍّ، من أجل أن نرسمَ مسالكَ للهربِ، لنُقيمَ حيث لا تُوجدُ ذاكرةٌ. والكتابة الأدبيةُ تضعنا أيضاً إزاءَ الجراحاتِ والمداراتِ، ولذلك يحتاجُ الكاتبُ من أجلِ الكِتابةِ الأدبيةِ إلى ما هو أعظم من القلم ولوحةِ المفاتيحِ. قد يحتاجُ إلى عيني امرأةٍ وكتيبةٍ من الأعداءِ وحضورِ الاشتهاءِ أو غيابهِ، وإلى حفنةٍ من تُّرابٍ لإنشاءِ بيتٍ أو قبرٍ أو مُنفى، ليكتبَ ويُعلِّقَ ما يكتبهُ على شاهدِ قبرِهِ ويموتَ كي يحيَا.
إنَّها لحظةُ الدَّهشةِ التي تعترى فيها الذاتُ أمامَ موضوعٍ أو فكرةٍ، فتنتقلُ من أفقِ العاديِّ والمألوفِ إلى أفقِ الإبداعِ والتَّأملِ والسُّؤالِ، فيولِّدُ نشوةً عارمةً، كما يقول نيتشه.
فما أصعبَ الكتابةَ وما أسهلَ الهُراءَ! في هذا العالمِ الذي انخرمتْ فيه نُظمُ اللُّغةِ. وما جدوى البحث في تفاهةِ الكلماتِ عن معنى تافهٍ مادام «النصُّ» بلا مضمون، ومادامَ المقالُ الذي يجبُ علينا قراءتُه مراراً من دون استيعاب مقاصدِهِ، ومادام النّقادُ ينزعجون من النّقد، ومادامت النُّصوصُ، لا فرقَ بين أن نقرأها أو ألا نقرأها. فجميعُها وجوهٌ لهزال الكتابةِ.
اليوم انحسرت الأميةُ بشكلٍ كبيرٍ في معظمِ بلداننا، فاختفت أو كادت مهنةُ «الكاتب العمومي»، وتمحَّضت الصِّفةُ اليومَ للكاتب الصحفيِّ أو الأدبيِّ أو الثقافيِّ عامةً. فكثر الكُتَّاب كثرةً غير مسبوقةٍ، ولكن مع هذه الكثرةِ قلَّت «البركةُ»، وصار بعض الكتابةِ أقل قيمةً وجماليةً ومعنى مما كان يكتبه الكاتبُ العموميُّ في الرسائل نيابةً عن الجمهور الأميِّ. فكثيرٌ مما يُنشرُ مجردُ «كلامٍ فارغٍ» ينتحل صفة الأدبِ، وباتوا يُطلقون عليه مُسمَّى «نصوص» تجنباً لتسميةِ الأشياءِ بأسمائِها المطابقةِ للواقع، كـ«الهراء» أو «الثرثرة» أو «الهذيان».
وليست هذه هي المشكلة الوحيدة فحسب، فقد سمحت تحولات النشر والتسويق للجميعِ أن يكسِرُوا طوقَ الحصاراتِ، وأن ينشرُوا ما يريدون نشرَهُ، من دون قيدِ أو شرطٍ، ولكنَّ المشكلةَ تكمنُ في استشراء ثقافةِ الادِّعاء الملازمةِ للهراءِ، وانتحال صفةِ الأدبِ لمجرد النَّشرِ، حتى كأنَّ النَّشر بات مطابقاً للإبداعِ، ومفتاحاً للدخول إلى عالمِه. في حين أن الكتابةَ الأدبيةَ تضعُنا مباشرةً إزاءَ الأسلوبِ والخلقِ. فهي «فن جميل يتوسَّلُ اللُّغةَ» عند طه حسين، «وهي: تعبيرٌ كتابيٌّ شخصيٌّ، يعتمدُ على الابتكارِ ويستخدمُ فيه الكاتبُ فكرَه ولغتَه وخيَالَهُ، لخلق قطعةِ حياةٍ فنية تضجُّ بحيويّة العيشِ» كما يعرفها طالب الرفاعي.
إنَّ الكتابةَ الأدبيةَ في نظري تتعدَّى حدودَ المعنى المُجردَ للكلامِ، لتلامسَ حدودَ الذَّواتِ وتخيلاتِها وتهويماتها؛ لأنها تنشأُ داخلَ حقلٍ تخيّليٍّ، من أجل أن نرسمَ مسالكَ للهربِ، لنُقيمَ حيث لا تُوجدُ ذاكرةٌ. والكتابة الأدبيةُ تضعنا أيضاً إزاءَ الجراحاتِ والمداراتِ، ولذلك يحتاجُ الكاتبُ من أجلِ الكِتابةِ الأدبيةِ إلى ما هو أعظم من القلم ولوحةِ المفاتيحِ. قد يحتاجُ إلى عيني امرأةٍ وكتيبةٍ من الأعداءِ وحضورِ الاشتهاءِ أو غيابهِ، وإلى حفنةٍ من تُّرابٍ لإنشاءِ بيتٍ أو قبرٍ أو مُنفى، ليكتبَ ويُعلِّقَ ما يكتبهُ على شاهدِ قبرِهِ ويموتَ كي يحيَا.
إنَّها لحظةُ الدَّهشةِ التي تعترى فيها الذاتُ أمامَ موضوعٍ أو فكرةٍ، فتنتقلُ من أفقِ العاديِّ والمألوفِ إلى أفقِ الإبداعِ والتَّأملِ والسُّؤالِ، فيولِّدُ نشوةً عارمةً، كما يقول نيتشه.
فما أصعبَ الكتابةَ وما أسهلَ الهُراءَ! في هذا العالمِ الذي انخرمتْ فيه نُظمُ اللُّغةِ. وما جدوى البحث في تفاهةِ الكلماتِ عن معنى تافهٍ مادام «النصُّ» بلا مضمون، ومادامَ المقالُ الذي يجبُ علينا قراءتُه مراراً من دون استيعاب مقاصدِهِ، ومادام النّقادُ ينزعجون من النّقد، ومادامت النُّصوصُ، لا فرقَ بين أن نقرأها أو ألا نقرأها. فجميعُها وجوهٌ لهزال الكتابةِ.