لنتذكر لم يكن القصد من مشعلي نيران الربيع العربي قبل عشرة أعوام هو إسقاط «الأنظمة»، بل كان تحديداً إسقاط «الدولة» وهناك فرق.
بمعنى بعد سقوط الأنظمة إبان ما سمي بالربيع العربي جرى مباشرة استهداف الجيش والمؤسسة العسكرية التي تحفظ كيان الدولة ومؤسساتها وقوانينها وقضاءها، وتعزيز دور المليشيات العسكرية، لأنهم يعلمون أنه بعد سقوط النظام فإن جزءاً هاماً من الدولة سقط فقط، لكن دعامته ومظلته وإطاره الذي يحفظ شرعية الدولة هو الجيش، فإن ترك الجيش فإن الدولة تظل باقية تسمح بإعادة ترتيب الأوراق من جديد بغض النظر عمن سيدير اللعبة السياسية، إنما كيان الدولة محفوظ بجيشها وهذه هي المهمة الثانية بعد إسقاط النظام.
وهذا ما قام به بريمر بعد إسقاط صدام حسين مباشرة أنه قام بتفكيك دعامة الدولة أي الجيش فتساقطت بقيتها كحجر الدينامو، ودخل العراق في دوامة العنف والصراعات والتفتيت الطائفي وغيرها من عناصر التفكيك، وتعزز دور المليشيات، ومازالت تعاني لاستعادة تلك الدعامة أي الجيش من أجل إعادة بناء هيكلية الدولة.
وهذا ما كان الربيع وعمالته يحاولون فعله في مصر حين تولى الإخوان المسلمون الحكم لسنة، جهدوا لتفكيك الدعامة أي الجيش وعزله وتحييده من أجل القضاء عليه حتى تسقط بقية أركان الدولة من بعد سقوط النظام، ولكن الله حفظ مصر بوعي قواتها المسلحة وحمى الدولة من التفكيك، ثم جرى ذلك في ليبيا، وهذا ما يحدث في السودان الآن، فقد سقط البشير أي النظام، وبقي الجيش كدعامة للدولة وما يجري الآن في السودان هو استكمال المهمة أي إسقاط الدعامة ليسقط ما تبقى منها.
وليس انحيازاً لأي من أطراف الصراع في السودان كأشخاص، إنما ما يحدث الآن هو تفكيك للجيش الوطني وإدخاله في دوامة الصراعات والانقلابات التي تشغل الجيش عن مهمته الرئيسة فتشل الدولة.
ونظرة واحدة لمن يقف وراء المحاربين ضد الجيش السوداني سنرى أنهم ذاتهم من دعم كل تحركات ما سمي بالربيع العربي وانحاز للمليشيات ضد الجيوش الوطنية.
على رأسهم قناة الجزيرة فهي تدعم المليشيات ضد الجيش الآن في السودان، وهي القناة الوحيدة التي تنقل وجهة نظر المليشيات، ثم القنوات التابعة للدول الغربية ذاتها تنحاز للمليشيات، وزارات الخارجية الغربية التي دعت إلى عدم تدخل قوات درع الجزيرة في البحرين هي ذاتها التي تدعو مصر لعدم التدخل في السودان وترك المليشيات لتقضي على ما تبقى من الجيش.
ما يحدث في السودان هو فعلاً موجة من موجات الربيع تأخر وصولها، بعد إسقاط النظام يجري الآن إسقاط الجيش، وجميع لاعبي الربيع انفتحت شهيتهم من جديد في السودان.
وها هم يرفعون ذات القمصان على الرماح «ديمقراطية محاربة فساد تداول سلطة إلخ» ولايهم كم سقط وكم سيسقط وكم روحاً ستزهق وكم أسرة ستدمر وكم الخوف والرعب الذي يصيب أهلنا في السودان، لم يكتفوا ولم يشبعوا من موت وتشريد وخراب الملايين في العراق وليبيا وتونس ومصر والبحرين طمعوا في الدولة التي يكاد شعبها يتنفس ليعيش... اللهم احفظ أهلنا في السودان.