في ثلاثينيات القرن الماضي أراد وزير المعارف، في المملكة العراقية -آنذاك- إرسال رسالة رسمية إلى إحدى الوزارات، فأوعز إلى سكرتيره الخاص بإعدادها وتقديمها له لتوقيعها ثم إرسالها إلى الوزارة المعنية، وهذا ما فعله سكرتير الوزير بالفعل، وعندما راجع الوزير الرسالة، قرأ كلمة «لا غرو» من بين كلمات الرسالة التي أعدت بعناية فائقة وبلغة رصينة، وكلمة لا غرو تعني «لا عجب»، لكن معالي الوزير لم يفهم معناها وما تدل عليه، وهذا أمر طبيعي لأن لغة الإعلام، وهي اللغة المستخدمة في الحياة اليومية، تتغير من عصر لآخر، والكلمة المذكورة كانت مستخدمة في وقت سابق في المخاطبات الرسمية لكنها فترة سبقت عصر الوزير الذي اعتبر هذه الكلمة نوعاً من الطلاسم، فنظر إلى سكرتيره الذي أعد الرسالة وقال له بحدة: «شوف! آنا لا غرو وما غرو ما أفتهم! روح اكتب لي رسالة مال أوادم وجيبها أوقعها!».
كان ذلك قبل أكثر من تسعين سنة، يوم كانت اللغة عالية المستوى، ولا شك أن وزير المعارف كان مؤهلاً ومتعلماً بما يكفي، لكن اللغة لم تكن مناسبة لعصرها، بالتأكيد من خلال اللغة المستخدمة يتمكن المستمع أو القارئ من تحديد المستوى الاجتماعي والثقافي للمتكلم أو الكاتب فهي أحد معايير التميز والانتماء الاجتماعي، ورمز للهوية الثقافية، لكن في الوقت نفسه على الكاتب والمتكلم أن ينتقي مفردات عصرية يفهمها الناس بمستوياتهم كافة ولا يكون فهمها حكراً على النخبة أو مجموعة محددة من البشر، والاعتقاد بأن تجنب استخدام لغة بسيطة المفردات والتراكيب، واستخدام لغة رفيعة ومعقدة المفردات يدل على عمق ورصانة صاحبها الثقافي والعلمي، هو أمر خاطئ ومضلل، أدى إلى ظهور بعض الشخصيات الفارغة ثقافياً وعلمياً، يجتهدون في انتقاء مفردات من الكتب القديمة وتأليف تراكيب وجمل منها، تطعم ببعض المفردات الفلسفية، فتنتج لغة معقدة وغير مستخدمة، يستخدمها أصحابها للاستعلاء الثقافي، ويصنعون بها حاجزاً بينهم وبين أفراد المجتمع، عندها تبدأ وسائل الإعلام بفتح أبوابها لهم، وتحرص على إجراء الحوارات معهم بصفتهم مفكرين ومثقفين ظلموا في زمن تصدر فيه البسطاء وسائل الإعلام الاجتماعي الحديثة، وفي حقيقة الأمر التي لا تخفى على أي متمكن من اللغة أو دارس للفلسفة ومفرداتها أو عالم أو مثقف حقيقي، أن هؤلاء لا يملكون من المعرفة إلا بعض العبارات غير المترابطة، إذا تحدثوا بها كشف أمرهم أمام من عرف محتواها والزمن الذي تعود إليه، وتبين أنهم «أفرغ من فؤاد أم موسى» وأنهم يصدرون نوعاً من التفاهة والسطحية أشد سوءاً من تلك التي يصدرها بعض مشاهير التواصل الاجتماعي.
الحفاظ على الموروث اللغوي والمفردات الرفيعة الراقية التي تعكس جمال اللغة وعمقها، أمر ضروري يظهر في الكتابات الفنية الأدبية، وهو أمر مختلف تماماً عن استخدام لغة عباراتها غير متداولة، لتكون مؤشراً على الثقافة، في الواقع نحن بحاجة إلى استخدام لغة رصينة بعبارات ومفردات لها بعد جمالي، ولكنها لغة معاصرة مفهومة للأديب وللعامل البسيط كي لا تفقد الغرض الأساسي منها وهو التواصل.
* عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية
كان ذلك قبل أكثر من تسعين سنة، يوم كانت اللغة عالية المستوى، ولا شك أن وزير المعارف كان مؤهلاً ومتعلماً بما يكفي، لكن اللغة لم تكن مناسبة لعصرها، بالتأكيد من خلال اللغة المستخدمة يتمكن المستمع أو القارئ من تحديد المستوى الاجتماعي والثقافي للمتكلم أو الكاتب فهي أحد معايير التميز والانتماء الاجتماعي، ورمز للهوية الثقافية، لكن في الوقت نفسه على الكاتب والمتكلم أن ينتقي مفردات عصرية يفهمها الناس بمستوياتهم كافة ولا يكون فهمها حكراً على النخبة أو مجموعة محددة من البشر، والاعتقاد بأن تجنب استخدام لغة بسيطة المفردات والتراكيب، واستخدام لغة رفيعة ومعقدة المفردات يدل على عمق ورصانة صاحبها الثقافي والعلمي، هو أمر خاطئ ومضلل، أدى إلى ظهور بعض الشخصيات الفارغة ثقافياً وعلمياً، يجتهدون في انتقاء مفردات من الكتب القديمة وتأليف تراكيب وجمل منها، تطعم ببعض المفردات الفلسفية، فتنتج لغة معقدة وغير مستخدمة، يستخدمها أصحابها للاستعلاء الثقافي، ويصنعون بها حاجزاً بينهم وبين أفراد المجتمع، عندها تبدأ وسائل الإعلام بفتح أبوابها لهم، وتحرص على إجراء الحوارات معهم بصفتهم مفكرين ومثقفين ظلموا في زمن تصدر فيه البسطاء وسائل الإعلام الاجتماعي الحديثة، وفي حقيقة الأمر التي لا تخفى على أي متمكن من اللغة أو دارس للفلسفة ومفرداتها أو عالم أو مثقف حقيقي، أن هؤلاء لا يملكون من المعرفة إلا بعض العبارات غير المترابطة، إذا تحدثوا بها كشف أمرهم أمام من عرف محتواها والزمن الذي تعود إليه، وتبين أنهم «أفرغ من فؤاد أم موسى» وأنهم يصدرون نوعاً من التفاهة والسطحية أشد سوءاً من تلك التي يصدرها بعض مشاهير التواصل الاجتماعي.
الحفاظ على الموروث اللغوي والمفردات الرفيعة الراقية التي تعكس جمال اللغة وعمقها، أمر ضروري يظهر في الكتابات الفنية الأدبية، وهو أمر مختلف تماماً عن استخدام لغة عباراتها غير متداولة، لتكون مؤشراً على الثقافة، في الواقع نحن بحاجة إلى استخدام لغة رصينة بعبارات ومفردات لها بعد جمالي، ولكنها لغة معاصرة مفهومة للأديب وللعامل البسيط كي لا تفقد الغرض الأساسي منها وهو التواصل.
* عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية