الجمعة الأخيرة في رمضان والأسبوع الأخير من رمضان والأيام الأخيرة من رمضان. هكذا عشنا مع رمضان بلحظات جميلة سريعة مرّت في ذاكرتنا كحلم عابر استشعرنا صوره ومعانيه وتفاصيله لحظة بلحظة.
كلما يُقبل رمضان في عام جديد كلما كانت لياليه تودّعك لحظة بلحظة من أنفاس عمرك كأسرع وداع من السنة التي مضت.
وهي كلّها دلائل وعلامات على قرب زوال أيام الدنيا كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عندما تتقارب الأوقات فنعيش لحظاتها بدون أن نعي فترة الزمن. هنا تتوقف الحكاية إلى الأبد، وتبدأ حكاية أخرى من حكايات «الآخرة».
مَنْ فاته الخير فهناك ليالٍ أُخرى معدودة من رمضان يمكنه أن يجدَّ ويجتهد لعلّه يُدرك ليلة من أعظم الليالي ويستزيد من زاد رمضان قبل أن يرحل. ما أجملك يا رمضان وما أجمل صورك التي نستشعرها في كلّ مناحي الحياة، صور برَكَة وصفاء ذهني ونفسي وقلبي، نمضيها في رحابك حتى نتهيَّأ ليوم لا ينفع فيه إلا صالح الأعمال.
رمضان سيرحل كما رحل سابقه، ولكن تبقى أنفاسك إلى أجل محدود لن تستطيع تقديمه أو تأجيله، وإلى ذلك الرحيل المعلوم وقته، عليك أن تجعل أيام عمرك كلها رمضان كما كان فعل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يستقبلونه ستة شهور ويودعونه ستة شهور، فهم قد استزادوا من هذه المحطة السريعة ما يعينهم على عبادة المولى «في عام قادم».
هي المحطة الجميلة التي تجدّد الإيمان وتُزيل ما في النفوس من أدران، وتجدّد التوبة والإنابة إلى المولى الكريم.
وسبحان الله من يتأمل معاني ليلة القدر وأجرها وصورها، يُدرك أنها ليلة تتزين بأقدارك وأرزاقك لعام قادم، لذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: «.. فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرم». رمضان سترحل صوره وتبقى في ذاكرة الزمان، ولكنك مادمت تتنفس الخير فأنت في رمضان دائم، وأنت في خير عميم، لا تغفل عن أثره أبداً، وكن مع الله دائماً وأبداً حتى تستزيد من الطاعات والقربات، وتبقى في قرب دافئ حميم إلى مولاك الذي يُحبُّك.
تذكّرْ بأنه يُحبُّك في كل حياتك، فلابد أن تُقدّم حُبَّه في كلّ لحظاتك حتى تلقاه وأنت في أحسن حال. لقد أبقى أنفاسك إلى رمضان، فاحمده واشكره وأقبِل عليه كما يُحبّ.
مؤلم حقاً أن تتحجّر قلوبنا ولو للحظات معدودة عن تلك المشاهد المؤلمة والمُقزّزة التي اعتادت أبصارنا مشاهدتها لأهلنا الصادمين في غزّة، وما أقسى اعتياد هذه الصور التي باتت شاهدة عيان على زمان لا يُلقي لها بالاً.
في كل لحظة أتنعّم فيها بالخير وبأمن وأمان وعافية ولقمة هانئة، أحمد الله عزّ وجلّ على ما حبانا إياه من خير ونعمة «من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فقد حِيزت له الدنيا». استشعار لصور هذا الحديث واستشعار للحدث الجلل الذي يمرّ على أهلنا في غزّة، ندرك كم من النِعم الجميلة التي بين أيدينا اعتدنا أن تكون أمام أنظارنا دون أن نستشعر قيمتها، ودون أن نكون من الحامدين الشاكرين للمولى الكريم عليها.
هناك باتت صور المُعاناة التي أضحت حديث مشاعرهم اليومية، يبحثون عن ذكرياتهم الجميلة التي باتت ذكريات عابرة من أيام الماضي الجميل!! يتمنّون لو عادوا يصلّون في أمان المساجد، وينامون في بيوتهم الهانئة، ويتنعّمون بنِعمة اجتماع العائلة على مائدة الإفطار، ويواصلون تعليمهم ليكونوا منارات شامخة في عالم العطاء، ويجتمعون في مجالسهم ليتبادلوا ضحكات الأحلام الغائبة.
هناك في غزّة توقّفت الحياة وتوقفت الأحلام السادرة، وهنا بات الدعاء سلاحنا لنكون عوناً لهم في محنتهم. الدعاء الذي يعطينا الأمل والثبات على معاني الخير، ويعطيهم الأمل بغدٍ غريب يُشرق بأمل جديد تتغير معه الأحوال بإذن الله.
وهنا نستشعر صور الجمال الحياتي الذي نعيشه، من أجل أن نعيش في واحة من الشكر والحمد للمولى الكريم، لأننا جزء من منظومة أقدار الحياة وحِكم المولى التي وزّعها في خلقه. للعيد فرحة جميلة بعد فرحة بلوغ رمضان وإتمام صيامه وقيامه، للعيد فرحة جميلة في نفوسنا نتبادل فيه التهاني سائلين المولى أن يتقبل منا «الطاعة والعمل الصالح»، وسائلينه أن ينعم علينا بمزيد من الخير والسعادة والعفو والعافية.
افرحوا في العيد ولابد أن نفرح ما دمنا نتنفس الخير والعطاء مع من نحب، تزاوروا وتبادلوا التهاني مع من تُحبّون وإن بُعدت المسافات.
فالعيد يأتي ليُكمل الخير الذي بدأناه في شهر الخير. واستثمروا باقي أيامكم في صيام الست من شوال: «من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر».
ومضة أمل
اللهم تقبّل منا رمضان وأعِده علينا أعواماً عديدة وأزمنة مديدة ونحن في صحة وعافية. وتقبّل الله منا ومنكم صالح الأعمال.