خلال دراستي الماجستير في لندن قبل سنوات، وفي إحدى محاضرات مادة «الديمقراطية والأيديولوجيات» قفز طالب إيراني وقال متفاخراً، وهو مدرك لوجود عدد من الطلبة العرب والخليجيين، قال: «نحن في إيران لدينا الرئيس الوحيد المنتخب في منطقة الشرق الأوسط».رددت عليه فوراً: «تقصد لديكم رئيس يُنتخب بإشارة من الإصبع الصغير للمرشد الأعلى خامنئي».

وهنا بدأت المواجهة في الكلام.بينما كان يحاول إقناع الموجودين بأن إيران تمتلك «الديمقراطية النموذجية» في المنطقة، وأننا كخليجيين رغم تجارب بلداننا الديمقراطية ومن ضمنها البحرين التي أسس لها جلالة الملك المعظم حفظه الله الممارسة الديمقراطية وفق أعلى معايير الانفتاح والحريات، بينما هو يحاول إيهام الدارسين من أجانب وبريطانيين بأن ما يقول هو الصواب، ويسعى في جانب آخر لتشويه صورة بلداننا، قلت له: الديمقراطية التي تتحدث عنها في إيران، ضُربت في مقتل منذ زمن بعيد، وتحديداً من زمن بدء مشروع التوسّع الصفوي تحت مسمّى الثورة التي جاء بها الخميني.

وواصلت الحديث لأثبت لهم «حقيقة الكذبة» التي ساقها، وقلت: يدعي أن رئيسهم منتخب، وحينها كان أحمدي نجاد، وقبلها بأشهر تمّ اختطاف الرئيس الإيراني «المنتخب» من قِبل «مجتبى» وهو ابن المرشد الخامنئي، بمعية أعضاء من الحرس، وتمّ إبقاؤه في سرداب تحت الأرض، وقام «ابن المرشد» بتعنيف «الرئيس المنتخب» من الشعب، لأنه أدلى ببعض التصريحات التي لم تُعجب «المرشد الأعلى»!المفارقة جاءت بعدها بسنوات حينما رفض «مجلس صيانة الدستور» الإيراني ترشيح أحمدي نجاد لمنصب الرئيس، واعتبره غير مؤهّل لذلك، رغم أنه كان رئيساً سابقاً.

بل الكارثة أن هذا المجلس كان دائماً يفصل في أمر المرشحين ويستبعد العشرات دون أسباب واضحة، ولكم أن تتخيّلوا مثلاً أن قائمة المترشحين للرئاسة التي وافق عليها المجلس لانتخابات يونيو الماضي انتهت على ستة مرشحين فقط من أصل 80 مرشحاً.

هذا المجلس له سوابق خطيرة في استبعاد شخصيات إيرانية لها شعبية في الشارع، لدرجة أنه رفض ترشح رئيس البرلمان السابق علي لاريجاني، والمساعد الأول لرئيس الجمهورية إسحاق جهانغيري، ومحافظ البنك المركزي السابق عبدالناصر همتي، وحتى مسؤولين سابقين في مكتب المرشد نفسه مثل «يد المرشد اليمنى» وحيد حقانيان بالإضافة لوزير الطرق الأسبق عباس آخوندي، والقائمة تطول وتطول، وبقدر طولها، تجد أن ادعاء الديمقراطية والحرية في إيران ما هي إلا «كذبة» يحاولون ترويجها على العالم.

ومعلومة طريفة هنا، وهي بأن هذا المجلس نفسه رفض ترشيح الرئيس الإيراني الحالي مسعود بيزيكشيان بداية عام 2024، لكنه عاد وقرر قبول ترشحه، وهنا لابد من معرفة حقيقة ثابتة بأن الرئيس لابد وأن يرضى عن ترشحه خامنئي بنفسه، بغضّ النظر إن كان موالياً حتى النخاع للتوجّه المتعصّب لمكتب المرشد، أو كان مترشحاً معتدلاً (في الظاهر طبعاً)، وهي سياسة النظام في إيهامه العالم بأنه يقبل التعددية.

مجلس صيانة الدستور هذا، يعيّنه الخامنئي بنفسه، ودوره مثل «أمن الدولة» في التعامل مع المترشحين، وبيده تقرير قبول ورفض المترشحين، طبعاً كل ذلك بأمر المرشد الأعلى الذي يحكم بأسلوب «أنا ربكم الأعلى»، ويكفي الاطلاع على ضوابط وآليات عمل «المجالس الإيرانية الصورية» مثل مجلس صيانة الدستور، والشورى الإيراني، ومجلس الثورة والفقهاء، ومجلس تشخيص مصلحة النظام، لتجدوا البند الثابت والأصيل الذي يعطي خامنئي الحق في حلّ المجالس وتنصيب من يريد، بل ويعطيه الحق الأصيل في «اعتماد» الرئيس المنتخب أو إقالته بحسب مزاجه.

والمضحك بأن هذا المجلس الذي يدّعي أنه «صائن للديمقراطية»، بينما هو «قاتل لها»، يترأسه رجل الدين أحمد جنتي «الخادم المخلص لخامنئي»، وذلك منذ عام 1999، وهنا نتحدث عن 25 عاماً كاملة لرئيس مجلس يتحكم بالمترشحين، ويبرمج العملية الانتخابية برمتها.

بمعنى أن أمامنا رئيساً معيّناً موالياً للمرشد، يتحكّم في مترشحين لعملية انتخابية!الحديث يطول عن «كذبة الديمقراطية الإيرانية»، عن نظام ديكتاتوري استبدادي يشنق المعارضين بلا محاكمة على أعمدة الإنارة، ويُنكّل بمن يخالفه التوجّه بعضّ النظر إن كان شيعياً أو سنياً.هم يعلمون تماماً بأن الوضع بلغ لديهم لمستوى «تأليه» المرشد الأعلى، وهذا شأنهم. لكن حينما يحاولون الانتقاص من تجاربنا الديمقراطية الحقيقية، حينما يستهدفون مشاريع الإصلاح والحريات والتعددية في دولنا، هنا لابد من الردّ عليهم بالحقائق التي تكشف زيفهم وكذبهم وتدليسهم.