يُقاس تقدّم المجتمعات ورقيّها بتقديرها لقيمها وتُراثها، وأحد أهمّ ركائز هذا الرقيّ هو احترام الكبار وتقدير حكمتهم وتجاربهم، شكلٌ من أشكال الوفاء والاعتراف بما قدّموه للأجيال الحاضرة، إذ هم الجسور الّتي تربط الماضي بالحاضر، وهم الّذين شقّوا طريقاً من الجهد والصبر، فأدّوا واجبهم تجاه مجتمعهم وبلدهم، ثمّ سلّموا راية البناء والتنمية لجيل الشباب ليتابع مسيرة التطوير والازدهار بخُطى ثابتة.

كلّ مرحلة من الحياة لها جمالها ولها ميزاتها، ولكن تبقى الحكمة الصافية المتأتّية من التجربة كنزًا لا يقدّر بثمن، حيث يُمثّل كبارنا رمزًا للشموخ وعنوانًا للأصالة. هم الأساس والخبرة والحكمة، هم القدوة والنقاء والوفاء، هم أصحاب الفضل وإطلالة التاريخ على الزمن الماضي بمواعظه وآلامه وعبره، نستقي منهم الثقة واليقين والصبر في أحلك الظروف لتشكّل لنا دليلاً في مواقفنا الصعبة. وكما أظهرت دراسات عديدة أنّ هؤلاء يمتلكون معارف ضمنيّة ومهارات حياتيّة متقدّمة لا تجدها في الكتب ولا في أرقى الجامعات، يتميّزون بقدرات فريدة على مواجهة تقلّبات الحياة والتعامل مع صعابها، ممّا يمكّنهم من تقديم نصائح ذهبيّة تجنّب الأجيال الشابّة الوقوع في نفس الأخطاء، وتساعدهم على تحقيق أقصى استفادة بأقلّ خسائر.

ولعلّ مقولة «لتعيش الحياة، خذ من المسنّين عقولهم، ومن الأطفال قلوبهم، ومن العظماء هيبتهم، ومن الفقراء صبرهم»، تختصر كلّ هذه المعاني العظيمة. ففي كلّ موقف نتعلّم كيف يمكن لقلوب الأطفال أن تلهمنا البراءة والنقاء، ولعقول الكبار أن تكون لنا دليلاً وسراجاً. فلا يقتصر احترام الكبار على كونه واجباً اجتماعياً أو دينياً، بل هو تجسيد للإخلاص تجاه من سبقونا، وعربون عرفان لمن أفنوا أعمارهم في العطاء والبذل، وتركوا لنا إرثًا نفخر به، ومسؤوليّة لنواصل العطاء برؤية تُكرّم الماضي وتبنّي المستقبل بكلّ ولاء ووفاء.

وفي خاتمة هذه الإطلالة لا يسعني إلّا أن أقف مستذكرًا ومترحّمًا على أحد أولئك الحكماء الّذين صادفتهم في إحدى المحطّات المهنيّة في بدايات الألفيّة الحاليّة، والّذي لمثلهم تنحني الهامات وترفع القبّعات، إنّه المربّي الفاضل والأستاذ الجليل عبدالرحمن بن عبداللّه بن غانم الرميحي، الّذي وافاه الأجل الأسبوع الماضي لتطوى صفحة عطرة.

رحل عنّا تاركاً أثراً طيباً في قلوب محبّيه وكلّ من عرفه. كان رحمه اللّه - بالإضافة إلى حكمته وحنكته - دائم الابتسامة، نموذجاً في التواضع والحلم والخلق. تعامل مع موظّفيه ومن حوله بروح الأبوّة والرعاية، احتضن الجميع برحابة صدره، حتّى امتدّت حكمته ومحبّته لتشمل الآخرين خارج دائرته.

رحم اللّه (بومحمد) وكلّ من رحلوا تاركين أثرهم الطيّب وبصماتهم الواضحة في خدمة وطننا العزيز؛ لتبقى ذكراهم مصدر إلهام لمن بعدهم، ويستمرّ أثرهم في نفوس كلّ من نهل من حكمتهم، واستفاد من عطائهم. نسأل اللّه أن يتغمّدهم بواسع رحمته، ويجزيهم خير الجزاء على ما قدّموه من عطاء ومحبّة، وأن يسكنهم فسيح جنّاته. كما نسأل المولى - عزّ وجلّ - أن يحفظ من تبقّى من أمثالهم بيننا، أولئك الّذين ما زالوا يضيئون الدروب بحكمتهم وصدق عطائهم، وأن يمدّهم بالصحّة والعافية.