يجلس أحدهم أمام كاميرات القنوات الفضائية، ليبدأ عرضاً مسرحياً، بلغة جسد مليئة بالنظرات الغامضة، والوجه الجاد، وحركات اليد المحسوبة، مبتدئاً كلامه بعبارات، ليس من السهل إعادتها، وبكلام ربما لا يفهمه هو نفسه لعمق الطرح، لاسيما مع مصطلحات مثل «التحولات الجيوسياسية» و«البراغماتية» وغيرها من المصطلحات التي يدرس تعريفاتها طلبة العلوم السياسية ثم لا يتذكرون منها أي شيء، المهم أي عبارات تبهر المستمع والمشاهد، وليس شرطاً أن يُفهم من معناها شيء، لكن المهم أن يفهم أن المتحدث عالم بما يقول عميق وعلمي في طرحه، خصوصاً وأنه يتحدث بثقة عالية وبثبات يجعلك تظن أن وقته اليومي مقسّم بين اجتماعات في البيت الأبيض والكرملين وباقي المطابخ السياسية وأنه يعرف دقائق الأمور، وليت الأمر يقف عند تحليلاته لما يجري بل تجده دائماً يقدّم قراءة للمستقبل وكأنه عائد منه قبل لحظات وشهد ما سيكون وجاء ليخبرنا ويعود بسرعة، بحيث يعطيك تواريخ محددة لبعض الأحداث التي لم تحدث ولن تحدث، هكذا هم «المحللون السياسيون الجدد» في زمن القنوات الفضائية فهي مهنة ووظيفة من الوظائف.

اللطيف أن هؤلاء وعندما لا يتحقق ما يتحدثون به -وهذا ما يحصل في الغالب- لا يكترثون ولا يخجلون من مواجهة الجمهور ويقدّمون تحليلات وتوقعات مستقبلية جديدة، وباتت لديهم قدرة على الحديث كقدرة العرافين المنجّمين فهم يستمرون في الحديث بثقة أمام الكاميرات، قدرة ربما تجعل رؤساء الدول أنفسهم يتساءلون عن المعلومات التي يقدّمها هؤلاء، وأكثر من يعرف حقيقة هؤلاء هم مقدّمو البرامج الذين يعلمون حقيقة الأمر ولكنهم بحاجة إلى ضيوف متحدثين أمثال هؤلاء، فهم الذين يجتذبونهم بفضل قدرتهم على تحويل النقاش إلى دراما مثيرة، وكلما كان المحلّل أكثر جُرأة في الطرح كلما زادت شعبيته ومشاهدات البرنامج.

هذه البرامج في الواقع لم تعد تقدّم المعلومة النافعة الصحيحة بقدر ما تقدّم الترفيه السياسي، والمحلل الناجح هو ذلك المحلل الذي يجذب إليه الأنظار ويثير الجدل، كما أن المشكلة الأكبر ليست في هذه البرامج ومحلليها إنما في الجمهور نفسه الذي ينصت لهؤلاء المحلّلين وكأنهم يستمعون إلى أخبار تم التأكد من صدقها في مختبرات موثقة، لاسيما وأن أكثر الجمهور يبحثون عن الأمل في الأخبار والتحليلات وليس الواقع.

يبدو أن هذا النوع من المحلّلين عرف سرّ النجاح في إعلام اليوم، فهم لا يحتاجون إلى خبرة سياسية حقيقية، بل يكفيهم لسان فصيح ووجه جاد، أما الحقيقة فهي أمر ثانوي، مع تطور الأحداث في المنطقة هذه الأيام سيستمر هؤلاء «العرّافون» في السيطرة على شاشات الفضائيات.

* عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية