«لا تَنهَ عن خلق وتأتي مثله.. عارٌ عليك إن فعلت عظيم»، بيت الشعر هذا لأبي الأسود الدؤلي أو المتوكل الليثي بحسب اختلاف الروايات.

هذا البيت كلّنا يعرفه، ويفترض أن نعرف دلالته، إذ هو يشرح ببساطة فداحة «الادعاء»، بمعنى أنه من الجرم بل العار أن تَنهى الناس عن شيء ثم تأتيه أنت، متناسياً ما نهيتهم عنه.

ولابد هنا أن نعرف أن من نوعيات البشر الخطرة على الدولة والمجتمع في حالة تمكينهم أو توليتهم مناصب معيّنة أو تصدّرهم المشهد الاجتماعي، هي نوعية الشخصيات «المدّعية».

الادعاء أخطر من النفاق نفسه، فالمنافق يحاول أن يغيّر أمامك الحقائق، يتملّقك، يجاملك إلى أقصى درجة، وفي غيابك يشرّحك ويغتابك ويتكلّم فيك، وعند «انقلاب» موازين القوى ينقلب عليك ويخونك.

ورغم خطورة هؤلاء، بدرجة أن البعض قد يستغرب «تهوين» أثرهم عن «المدّعين»، إلا أن التفسير ينحصر في كون التعامل مع المنافق غالباً ما يكون فورياً حين يكتشف نفاقه، لكن المشكلة مع «المدّعين» أنهم وصلوا لمرحلة متطورة معها يمكنها أن «يدوموا» لمدد طويلة في مواقعهم ويكون لهم تأثير على الآخرين، وهذه النقطة يندر وجودها في المنافق كونه يعمل لنفسه ويصعب أن يكون جماعات وأتباعاً.

«الادعاء» ببساطة شديدة هو أن تدّعي شيئاً ليس لديك، أن تصوّر نفسك على هيئة هي ليست حقيقتك، أن تتحدث أمام الناس بشعارات وتقنعهم بها وأنت نفسك غير مقتنع بها بل «تدّعي» الاقتناع بها، أن تقدّم نفسك بأنك الخبير الحصيف الدقيق المؤهل الكفوء الجاد في عمله وممارساته، لكن الحقيقة تقول خلاف ذلك.

في كل قطاع لديكم تجدون هذه النوعية من «المدّعين»، في مواقع العمل، سواء أكانوا رؤساء أو مرؤوسين، في القطاعات الإعلامية حتى، في الرياضة، في الجمعيات باختلافها، حتى في المساجد وللأسف عند بعض «مدّعي التديّن» تجدونها.

هنا تكون كارثة المجتمعات وتبدأ معاناة البشر، حينما تغرق الدول في بحر من الشعارات من جهة، وفي جانب آخر يكثر فيها «المدّعون» الذين يقودون قطاعات فيها للهاوية، لأنهم ليسوا أهلاً لها لكنهم «يدّعون» بأنهم أفضل من يحمل مسؤوليتها.

نحن نعيش أوضاعاً «جادّة» فيها قضايا وتطورات «جادّة»، ومثل هذه الأوقات تحتاج أناساً «جادّين»، وأسوأ ما يمكن أن يضر بالبلد وجود أشخاص «مدّعين»، هم من يزيدون الطين البلة وهم من يقودون العجلة للوراء، وهم من يزرعون الهم والإحباط واليأس في قلوب الناس.

انظروا حولكم بتمعّن، كم شخصاً تعرفون ممن ينطبق عليهم بيت الشعر هذا، ممن ينهون عن أشياء هم يقومون بها، ممن يدعون الفضائل والأخلاقيات والمعرفة، وهم أبعد ما يكونون عنها؟كفانا الله وبلادنا شرّهم وأذاهم.