جولة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الخليج مؤخراً، ليست حدثاً عابراً يُختزل في صور توقيع عقود أو مراسم البروتوكولية.
بل حملت الزيارة دلالات عميقة تتجاوز الإطار التقليدي، لتكشف عن إعادة تموضع إستراتيجي وتوازن جديد في مفاهيم النفوذ والمصالح الإقليمية والدولية.
النظرة السطحية التي تصور الزيارات كفرصة لواشنطن لجمع المليارات، تغفل عمق الديناميكيات التي تحكم العلاقة بين الطرفين.
فالحديث عن «أخذ الأموال» لا يعكس حقيقة الواقع، بقدر ما يشير إلى قراءة اختزالية تتجاهل الدور الخليجي المتنامي في صناعة القرار الإقليمي والدولي.
فدول الخليج العربي لم تعد مجرد أسواق استهلاكية أو حليف يعتمد على الدعم الأمريكي، بل اليوم هي فاعل سياسي واقتصادي يمتلك أدوات تأثير وتفاوض قوية.
الاتفاقيات الاقتصادية والاستثمارية التي وقعت، جاءت تجسيداً لرؤية خليجية مدروسة ترى في الشراكة مع الولايات المتحدة استثماراً طويل الأمد.
لم تعد العلاقة تقوم فقط على التبادل الأمني أو شراء الأسلحة، بل باتت شراكة متعددة الأبعاد تشمل البنية التحتية، التكنولوجيا، والتنمية الاقتصادية المستدامة، وكل ذلك يتماشى مع إستراتيجيات التحول الوطني التي تتبناها دول الخليج.
التعامل مع شخصية مثل دونالد ترامب تهوي «الصفقات»، تتطلب من دولنا مستوى عالياً من الحنكة السياسية. ليست مجاملات سياسية، بل تفاهمات تدرك طبيعة المصالح المشتركة والتفاوض بمبدأ الربح المتبادل.محاولة تصوير دول الخليج كـ«دافعة للأموال» بسهولة، محاولة لا تصمد أمام قراءة تحليلية حقيقية.
فالاستثمارات المتفق عليها لم تكن سوى انعكاس لقرار سيادي يعبر عن رغبة في تعزيز الاستقلال الاقتصادي، وتنويع مصادر الدخل، وبناء تحالفات ذات بعد إستراتيجي. الخليج يدرك تماماً أن المال، إذا لم يتحول إلى نفوذ سياسي واقتصادي، يفقد قيمته في لعبة المصالح الدولية.
زيارة ترامب أكدت أن الخليج لم يعد يتلقى السياسة الأمريكية بوصفها ضغوطات، بل يفاوض، يحدد شروطه، ويمارس تأثيراً واضحاً على التوجهات الكبرى في المنطقة. هذه الشراكة لم تعد أحادية الاتجاه، بل هي قائمة على تكافؤ يخلق واقعاً سياسياً جديداً يصعب تجاهله.
يتوجب على من يحاول تبسيط العلاقات الدولية إلى «مقولات شعبوية» أن يعيد النظر في تحليلاته. الخليج العربي اليوم ليس كياناً تابعاً، بل لاعباً رئيساً في معادلة القوة.
والصفقات التي تُبرم لم تعد تُملى عليه، بل تُدار من غرف قرار توازن بين المصلحة والسيادة. إنها ليست «أموال صدقات»، بل استثمارات مدروسة في شراكات استراتيجية تعيد رسم ملامح المنطقة، هي أموال استثمارات وبـ«بإرادة» دولنا.