من المدهش أن بلداً كإيران، التي دأبت على مهاجمة إسرائيل لفظياً واعتبارها عدواً دائماً، دخلت في تعاملات سرية للحصول على السلاح منها. وفي المقابل، من الغريب أن تقبل إسرائيل، التي تعتبر إيران أحد أكبر الأخطار على أمنها، بتزويدها بالعتاد العسكري خلف الكواليس.
هذا ليس مجرد تصور نظري أو افتراض سياسي، بل واقعة تاريخية موثقة جرت أحداثها خلال ثمانينيات القرن الماضي، وتُعرف باسم: الصفقة السرية بين طهران وتل أبيب، في خضم الحرب الإيرانية–العراقية.
لم تكن تلك الصفقة مجرد حادثة هامشية في سجل العلاقات الدولية، بل كانت نموذجاً فاضحاً لتناقض المواقف بين العلن والسر. فقد كشفت أن الشعارات الحماسية التي تُرفع في الساحات ليست بالضرورة ما يوجّه السياسات داخل الغرف المغلقة.
مع اندلاع الحرب بين إيران والعراق عام 1980، وجدت طهران نفسها في عزلة شبه تامة، بعدما تخلّت عنها كثير من الدول العربية والغربية على حد سواء. ووجد النظام الإيراني الجديد، الذي جاء على خلفية عداء معلن مع الغرب، نفسه بحاجة ماسة إلى مصادر تسليح بديلة.
في هذا المناخ، اختارت القيادة الإيرانية تجاوز محظوراتها الأيديولوجية، وبدأت بإبرام صفقات سلاح سرية مع إسرائيل، بوساطة أطراف دولية. شملت هذه الصفقات قطع غيار لطائرات F-4، وصواريخ، ومعدات اتصالات وتجسس.
المثير أن هذه المعاملات العسكرية تمت خلال فترة حكم الخميني، الذي عُرف بخطابه الحاد ضد إسرائيل، وبتصويره لها كعنصر غريب وضار في المنطقة. لكن في المقابل كانت هذه الدولة التي وصفها بالعدو، تؤدي في الخفاء دور المزوّد الحاسم لإنقاذ الجيش الإيراني من الانهيار!
من جهة إسرائيل، فإن الدافع لم يكن بدافع تحسين العلاقات مع إيران، بل كان يستند إلى إستراتيجية تهدف لإضعاف العراق، الذي كان يُعد في حينه الخصم الأكثر خطراً في المنطقة. وعلى الرغم من خطابات العداء الإيراني لإسرائيل، رأت تل أبيب أن من مصلحتها استغلال عزلة إيران لبيع فائض السلاح، وربما توصيل رسائل غير مباشرة إلى بغداد.
كشفت الوثائق لاحقاً أن إدارة الرئيس ريغان كانت متورطة في صفقة معقدة، تم بموجبها إرسال أسلحة إلى إيران مقابل الإفراج عن رهائن أمريكيين، في حين تم استخدام عائدات الصفقة لتمويل مجموعات مسلحة في نيكاراغوا، فيما عُرف لاحقاً بفضيحة «إيران-كونترا».
هذا البُعد الأمريكي أضاف طبقة جديدة من التعقيد، حيث ظهر أن واشنطن، التي كانت تصر علناً على مبدأ «عدم التفاوض مع الإرهابيين»، كانت في الواقع ضالعة في تفاهمات سرية مع أطراف تعتبرها خصوماً.
وقد شكّل انكشاف الصفقة ضربة موجعة لإيران، التي طالما ربطت شرعيتها السياسية برفضها التام لأي علاقة مع إسرائيل. كما أحدثت صدمة داخل الرأي العام الأمريكي بعد كشف تورط إدارة ريغان. أما إسرائيل، فقد خرجت من الفضيحة بأقل قدر من الأضرار.
التأثير الأعمق كان في وعي الرأي العام، الذي بدأ يُدرك أن التصريحات الرسمية قد تكون مجرد واجهة تخفي وراءها واقعاً مغايراً، حيث تتبدل الاصطفافات والتحالفات بحسب الظروف.
والأخطر، أن الحسابات السياسية لا تُحكم دائماً بالقيم أو المبادئ، بل تخضع أولاً وأخيراً لمنطق المصالح والضرورات الاستراتيجية. فالأيديولوجيا قد تُستخدم كأداة لتحشيد الجماهير، لكنها نادراً ما تصمد أمام احتياجات الميدان أو ضغوط العزلة الدولية.
من يتعمق في فهم السياسة يدرك أن كثيراً من التحالفات والصفقات تُعقد خلف الستار، بين أطراف تبدو في الظاهر على طرفي نقيض، والمخفي أعظم!