مرة أخرى، ومنذ أن عقدت البحرين العزم على الترشح للعضوية غير الدائمة في مجلس الأمن للسنتين القادمتين، لم يتوقف نشاط حملتها الدبلوماسية الشاملة، والحماسية، والذكية، التي تميزت بابتعادها عن الضجيج الدعائي والتسويقي كما يحلو لبعض التجارب، هذا إلى جانب استثمارها الموفق لشبكة تحالفاتها الصديقة، واعتمادها على رصيد سمعتها الدولية الكبيرة، بمواقفها المتسمة بالتروي والعقلانية والاعتدال في سياساتها الخارجية.فهي دولة لا يختلف عليها اثنان: حليفة دائمة لسيادة القانون والأمن الدولي، واستقرار النظام العالمي، ولديها نموذجها الخاص في التعايش، والتآخي، والتسامح الإنساني، وهذه حقيقة تاريخية وحضارية علينا، نحن أبناء البحرين، أن نسجلها، ونفخر بها، ونبقيها حيّة على مر الأزمان.أما بالنسبة إلى مغزى هذا القرار، الذي يأتي وسط توترات عالمية غير مسبوقة تعصف بالاستقرار الدولي وتُضعف فرص حل النزاعات، ووقف الحروب، وقمع الإرهاب العابر للقارات، فهو انعكاس طبيعي لدور البحرين المتصاعد على الساحة الدولية، وخطوة لابد منها لإيصال صوتها المتزن ورؤيتها العقلانية لمعالجة المشكلات العالمية، وذلك بالنظر إلى مواقفها الحاسمة في الدفاع عن القضايا المصيرية والعادلة، والمؤكدَة، في كل مناسبة، على أن الحل يكمن في تحقيق الوحدة الإنسانية بين جميع المجتمعات عبر تجاوز الضغائن، والأطماع، والنعرات النفسية.والنتيجة -كما رأينا مؤخراً- جاءت في صيغتها المفرحة والباعثة على الفخر، بفوز البحرين بأغلبية ساحقة، استعداداً لمرحلة متقدمة من الحضور الدولي ومن قلب مجلس الأمن؛ المنصة الأكثر سخونة بين وكالات الأمم المتحدة، نظراً لما تشهده دهاليزها -الظاهرة والخفية- من تعقيدات نابعة من تضارب مصالح أعضائها الدائمين، كما يؤكده تاريخ المجلس التليد.وسيكون من الصعب تجاهل هذا الجانب المعقد، بتبايناته السياسية وتحدياته الداخلية المتشابكة، التي تُضعف قدرة المجلس على التوافق وإنفاذ قراراته على الساحة العالمية. ناهيك عن الانتقادات المستمرة التي تطال تركيبة عضويته الدائمة والثابتة منذ قيام منظمة الأمم المتحدة، إضافة إلى الخلافات العميقة بين أقطابه، مما يُصعّب تحقيق الغايات الكبرى للكيان الأممي، الذي يُعتبر تأسيسه بمثابة اختبار لإرادة العالم في بناء نظامه الجديد بعيداً عن شرر الحروب وصراعات الحضارات.ولكن يبقى المحك الحقيقي في الوضع القائم والمتأرجح هو كيفية تحقيق أفضل النتائج الممكنة في ظل الظروف الراهنة، وكيفية التعامل بحكمة مع توازنات السياسة الدولية بمصالحها المتضاربة، من جهة، ومع تعقيدات الأزمات الإقليمية التي تفرض نفسها بقوة على أجندة العمل الدولي، من جهة أخرى. ولاشك أن احتمالات مواجهة الضغوط التي تُمارَس، في العادة، على الأعضاء لفرض توجهات معينة، ستستدعي تكتيكات دبلوماسية من نوع خاص، لضمان استقلالية المواقف المتخذة، مع مراعاة حسابات المصالح الإقليمية والوطنية.وإذا أخذنا في الاعتبار طبيعة القضايا العالمية المعقدة التي ستناقش على طاولة المجلس، بدءاً من التصدي للتسليح النووي، ومكافحة كل أشكال الإرهاب، مروراً بتحديات المخاطر البيئية على الموارد الكونية، وصولاً إلى ميادين حفظ السلام وتحقيق العدالة الدولية، فإن كل ما تقدم سيتطلب، دون شك، جاهزية مختلفة لشبكة من الخبرات الوطنية الملمة بالقضايا العالمية، والمتسلحة بالمهارات الأساسية في التفاوض والمناورة والوساطة، وطرق استثمار الشراكات الاستراتيجية والعلاقات الثنائية، لتترك البحرين بصمتها المؤثرة على سجلات وسجالات مجلس الأمن.وإني على يقين بأن لبلادنا طريقتها الخاصة في التأهب والاستعداد لكل تحدٍّ جديد، للتفوّق في الأداء في نهاية المطاف.. ومبارك للدبلوماسية البحرينية هذا الإنجاز الكبير.* عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة
البحرين وأمن العالم وإنجازها الدولي الكبير!
هالة محمد جابر الأنصاري
هالة محمد جابر الأنصاري