شهد تاريخ العالم منذ القدم حراكاً بشرياً نتج عنه ظهور وقيام حضارات متعددة متفاوتة من حيث الامتداد الزمني والمكاني والتأثير، ومتباينة من حيث كونها حضارات أصيلة مؤثرة في محيطها أو مقلدة متأثرة بغيرها، وكل ذلك التباين مرتبط بطبيعة ومقومات هذه الحضارة أو تلك.

من هنا يمكن القول بأنّ البحرين قد حظيت على مدار التاريخ بمقومات وعوامل متعددة جعلها صالحة لظهور حضارة أصيلة، وكان في مقدمة تلك المقومات العوامل الجغرافية والطبيعية حيث الموقع الاستراتيجي وطبيعة الأرض والتضاريس والمناخ وخصوبة التربة ووفرة المياه، وكل ذلك أتاح بأن تظهر في البحرين منذ القدم تكتلات بشرية استقرت في سواحلها وسهولها وواحاتها، وارتبط بذلك وبأثره توافر العوامل الاقتصادية؛ فتنوعت الأنشطة الاقتصادية فيها حيث مارس سكانها منذ القدم الزراعة وصيد الأسماك وصيد اللؤلؤ، والمساهمة الفعالة في الملاحة والتجارة البحرية حيث قام تجارها بربط شرق العالم بغربه، علاوةً على التجارة الداخلية بين أقاليم الجزيرة العربية والأقاليم المحيطة بها، وزامن ذلك وتلاه ظهور تنظيمات ومعاملات اقتصادية ونظم سياسية وإدارية ومعالم عمرانية واضحة المعالم، كل ذلك مثّل إثراء للإنسان البحريني؛ ممّا ساعده على وضع أسس حضارة عريقة، ولم تكن حضارة البحرين عبر التاريخ نتاج ظروف مادية فحسب، بل توفرت فيها مقومات معنوية أخرى منها الدينية والروحية والثقافية الراسخة، إذ ساهم موقعها الجغرافي وفعاليتها الاقتصادية بجعلها ملتقى لثقافات وديانات متعددة، فبزغت فيها حضارة وثقافة أصيلة، وشكّلت أساساً متيناً لبنائها واستمرارها. هذه المقومات، المتجذرة في عمق الهوية البحرينية، ساهمت في صناعة حضارة متكاملة، اتسمت بالأصالة والانفتاح والتجدّد، وشهد لها القريب والبعيد.

وبعد ظهور الإسلام في القرن السابع الميلادي وانتشاره كانت البحرين مهيأةً لاستقبال الرسالة الإسلامية والتفاعل معها ثم الإسهام في نشرها وبناء أنماطها الحضارية، فتفاعل سكان البحرين مع مبادئ وقيم الإسلام، ومثّل ذلك إضافةً لجذور البحرين الحضارية، وقد شكّلت مبادئ التوحيد والعدل والكرامة الإنسانية والتسامح والتعايش أساساً للعلاقات الاجتماعية والسياسية في المجتمع البحريني، ورسّخت حضوراً روحياً أصيلاً في مختلف مراحل تاريخها. وقد كان لذلك أثر بالغ في استقرار المجتمع البحريني، وتكوين شخصية حضارية متوازنة تجمع بين العبادة والعمل، بين الإيمان والانفتاح وبين الأصالة والحداثة والتأثير والتفاعل مع الآخر.

وبدورها كانت اللغة العربية، ركيزة أصيلة من ركائز هذه الحضارة، إذ لم تكن أداة تواصل فقط، بل حملت في طياتها موروث العرب الحضاري قبل الإسلام، ممثلاً في الشعر، والخطابة، والأمثال، وكلها أسهمت في تشكيل الوعي الجماعي والهوية. وبعد نزول القرآن وانتشار الإسلام، أصبحت اللغة العربية في البحرين تمثل وعاءً للدين والعلم والإدارة وأساساً للحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

ومن المهم التأكيد على أنّ البيئة العربية بطبيعتها البدوية والزراعية والتجارية، وما تحمله من عادات وقيم، كان لها أثر كبير في التهيئة الحضارية. فقد امتلك العرب قبل الإسلام مقومات ثقافية جاهزة، ساعدت على الانتقال السلس إلى الإسلام، وسرّعت من تداوله ونشره. وهذا ما منح الحضارة الإسلامية لاحقاً مرونة وقدرة فائقة على استيعاب الثقافات الأخرى.

وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال تأثير الحضارات المجاورة، والتي تفاعلت معها حضارة البحرين، فانتقت ما لا يتعارض مع قيمها، وأعادت تشكيله في قالبها. وقد كانت البحرين نموذجاً في هذا الانفتاح المتزن، حيث جمعت بين الأصالة والانفتاح، وبين التمسّك بالدين والتسامح مع الآخر، ممّا يجعلها جزءاً فاعلاً في بناء الحضارة العربية الإسلامية العالمية.