في زحمة الأيام والمناسبات التي تحتفي بكل ما هو ظاهر ومرئي، يمرّ يوم الأب كزائر خجول لا يطرق الأبواب، لا ضجيج في الإعلام، ولا لافتات ملوّنة في الشوارع، ولا فقرات تمتلئ بها الإذاعات المدرسية، ولا حتى عروض من محلات الورود والهدايا، منشورات بسيطة هنا وهناك بعد «هبة» وسائل التواصل الاجتماعي، لكنه في العادة يمرّ وكأنه لا يخصّ أحداً، وليس منوطاً بأي شخص أن يحتفل به.
ولعل هذا الغياب عن الوعي الجمعي هو ما جعل لهذا اليوم تواريخ متعددة حول العالم، كأن أحداً لم يحسم بعد مكانته بين المناسبات، فالكاثوليك يحتفلون به في 19 مارس، والولايات المتحدة تُخصّص له الأحد الثالث من يونيو، بينما أستراليا اختارت له الأحد الأول من سبتمبر، والدول العربية وإن بدأت تلتفت إليه حديثاً تحتفل به في تواريخ متفرقة، أبرزها 21 يونيو في لبنان وبعض بلدان الخليج 15 و16 يونيو، وهذا التشتّت يعكس تهميشاً طويلاً، أو على الأقل تأخيراً في الاعتراف بالدور الذي يلعبه الأب في حياة الأسرة، وهو بطبيعة الحال لم يكن يتنظر تكريماً لجهوده الطبيعية.
وحين نعود إلى ذكريات الطفولة، لا نجد للأب في وجداننا أناشيد كتلك التي حفظناها للأم، لم نرسم له بطاقة، لم نعلّق له صورة، لم نركض إليه ونحن نحمل نتائجنا المدرسية بفخر، كما فعلنا مع الأم، كبرنا على صوته الثخين، حضوره المتعب، صمته الطويل، ظنناه غائباً، ولم نكن نعلم أنه حاضر على طريقته، لكنه اختار أن يختبئ خلف ستار تعب الدنيا وهمّ العيش ليبقى البيت مضاءً بكرامة.
وتمرّ السنوات.. وتدور بنا الحياة.
نحمل مفاتيح البيوت، نوقظ أبناءنا في الصباح، نتأخر في العودة، نقلق من دون أن نشتكي، ونتعب من دون أن نقول، عندها فقط، نفهم ما لم يُقل لنا، ندرك أن الأب لم يكن بارداً أو بعيداً، كان متماسكاً حتى لا يتزعزع البيت، لم يكن صامتاً عن ضعف، إنما كان صمته عن تضحية، ولم يقل «أنا تعبت»، ولكن قالها جسده المنهك، وهو الذي لم يطلب منا يوماً أن نحتويه، لأنه كان هو من احتوانا جميعاً.
الحنان ليس حكراً على الأم، لكنه عند الأب يأخذ هيئة أخرى: صامت، قاسٍ أحياناً، لكنه دائم، فهو حنان لا يُقال، ولكن تترجمه أفعاله في لقمة مضمونة، في دفء بيت، في حضنٍ ولو غاب جسدياً.
وفي يوم الأب، لا نرسل له وروداً، ولا نشتري له هدايا ثمينة، لكنه حين يسمع كلمة «بابا» من حفيده، أو يرى أبناءه وقد صاروا آباء، يبتسم تلك الابتسامة التي تعني شيئاً واحداً: «أنا بخير.. ما دمتم أنتم بخير».
لعل أجمل ما نفعله في يوم الأب هو أن نتذكر.. أن نغفر.. أن نعترف بأننا فهمنا متأخرين، ولكن، ليس متأخراً أبداً أن نقول له اليوم: شكراً لأنك كنت هناك، ببصمتك، بتعبك، بثباتك..
شكراً يا أبي..