التصعيد العسكري بين إيران وإسرائيل لا يمكن النظر إليه باعتباره مجرد مواجهة ثنائية بين خصمين تقليديين، بل هو جزء من مشهد إقليمي ودولي معقد، تتقاطع فيه المصالح الاستراتيجية مع التوازنات الهشة، وتنعكس آثاره على الأمن الجماعي لدول الجوار، وعلى النظام الدولي برمته.
الضربات المتبادلة التي كانت في السابق تستهدف مواقع عسكرية أو مراكز أبحاث متصلة بالقدرات الدفاعية، تجاوزت اليوم هذه الحدود، لتصيب مناطق مدنية وبنى تحتية حيوية، في مشهد يعكس انزلاقاً مقلقاً نحو نمط من الحروب غير المتكافئة، حيث المدنيون هم أول من يدفع الثمن.
ومع احتمال استهداف منشآت نووية أو حصول تسرب إشعاعي، فإن الخطر لم يعد محصوراً داخل حدود جغرافية محددة، بل بات يهدد الصحة العامة والبيئة في الإقليم، تماماً كما حدث في تجارب تاريخية مأساوية، أبرزها ما جرى في هيروشيما وناغازاكي.
المسألة لا تقف عند حدود التهديدات المباشرة. فالتأثيرات غير المباشرة بدأت تتبلور في شكل اضطرابات اقتصادية، إذ حركة الملاحة الجوية تأثرت، أسعار النفط شهدت تقلبات حادة، والمخاوف بدأت تتصاعد بشأن الأمن الغذائي وسلاسل الإمداد، وكل ذلك ينعكس سلباً على مناخ الاستثمار والاستقرار الاجتماعي، ما يجعل من هذه الحرب صراعاً تتعدى تداعياته الفاعلين الأساسيين فيه.
في قلب هذه الأزمة تبرز إشكالية جوهرية، وأعني هنا معايير التعامل مع امتلاك أسلحة الدمار الشامل. إذ لا تزال بعض الدول الكبرى، التي تمتلك ترسانات ضخمة من هذه الأسلحة، تمنح لنفسها حق الوصاية على من يحق له امتلاكها ومن لا يحق له، مستندة إلى سرديات أمنية لا تخلو من الانتقائية. التجربة العراقية خير مثال، أمامنا تدخل عسكري واسع بُني على فرضيات ثبت زيفها لاحقاً، في حين بقيت الدول التي قادت ذلك التدخل خارج أي مساءلة قانونية أو أخلاقية.
هذا النمط من إدارة النظام الدولي يعيد إنتاج منطق الهيمنة بدلاً من ترسيخ العدالة. فحين تُمنع دول من تطوير قدراتها الدفاعية تحت طائلة العقوبات، في الوقت الذي تستمر فيه دول أخرى في تعزيز ترساناتها النووية، فإن النظام يفقد توازنه ومصداقيته.
وحين تُدان دول على استهداف المدنيين، بينما يُغض الطرف عن ممارسات مشابهة من قبل حلفاء أقوياء، فإن القانون الدولي يتحول إلى أداة انتقائية، لا إلى منظومة ضابطة.
الحاجة الملحة اليوم لا تكمن فقط في وقف التصعيد العسكري، بل في مراجعة شاملة للعقلية التي تحكم العلاقات الدولية في هذا الملف الحساس.
إذ لا يمكن إرساء الاستقرار في منطقة مثل الشرق الأوسط، ما لم تُعالج أسباب الخلل البنيوي في توزيع القوة والشرعية، وما لم يتم تجاوز خطاب ”الاحتكار المشروع للقوة“ الذي تستخدمه بعض الدول الكبرى لحماية مصالحها على حساب الأمن الجماعي.
مبدأ المساواة بين الدول، واحترام الحق الإنساني في العيش الآمن، يظل أساساً لا يمكن تجاوزه. فالمؤسسات الدولية لم تُنشأ لتكرس التفوق، بل لتحد منه.
وإذا عجزت عن أداء هذا الدور، فإن العالم يتجه بثبات نحو نظام دولي متآكل، يحكمه منطق القوة، لا منطق القانون.