لا يوجد وقت أنسب من الأزمات الحرجة والتحولات المصيرية، لاختبار معدن الإنسان وصقل خامته؛ ففي مثل هذه اللحظات، تتجلى بواطنه وتُكشف مواقفه، فينضح ما في إنائه، سواء بالخير أو الشر، أو بما هو أخطر من الشر البَيّن، ما أسميه «الحياد اللئيم» أو «الصمت المتعمد»، الذي لا يستقيم مع مقامات التصرف عند الامتحانات الكبرى التي تواجه البشرية، من أجل العبور الآمن بتماسك النسيج المجتمعي الحامي لمدنية الدولة.

وأقصد بالأزمات هنا القضايا المصيرية التي تستنهض الوعي الإنساني المركزي، وتدفعه دفعاً نحو «الصحوة» والتجديد الفكري والنفسي، لاستيعاب متطلبات اللحظة التاريخية التي تفرض نفسها، وإنقاذ روح الأمم وإرادتها من السقوط الحضاري.

ومن أكبر العوائق التي تقف في وجه هذا الوعي، وتبقيه في حالة حصار دائم، هو «التطرف الأعمى» أو «التحيز المقيت» الذي يأخذ بالإنسان إلى معاقل «الهيمنة الأصولية» المنتجة للأدلجة الفكرية المربكة والمشوشة للرؤية.

وفي ظل هذا الحصار الفكري، تفقد الإرادة الإنسانية استقلاليتها، وتُترك تحت رحمة قيود مزمنة تُعيق أي محاولة جادة لكسر الأطواق، والتحرر من التخلف، ومن الأوهام التي تمنح القداسة لغير المقدس، وتُقدِّم قرابين الرضا والولاء لسلطة الجماعات المغلقة، سواء أكانت دينية أو حزبية أو إثنية.

والملاحظ أن «الهيمنة الأصولية»، كما وصفها المفكر البحريني الأنصاري في تشخيصه لوهن العقل السياسي العربي في مواجهة هزائمه، قد استطاعت تاريخياً أن تشل هذا العقل، وتحرمه من فرصة التحرر من سطوتها.

بل إنها نجحت، فوق ذلك، في عزله عن أي محاولات لإنقاذ التكوين الثقافي أو المعرفي أو السياسي، الهادف إلى تمكين الإنسان من الاندماج الكامل كمواطن مسؤول في مجتمعه المديني، القائم على مفهوم الدولة الوطنية المستقلة، التي لا تساوم على حماية سيادتها واستقلالية قرارها، مع حفاظها على كرامة أفرادها ورفاه مجتمعاتها.

وحتى اللحظة، نجد أن هذه الظاهرة السائدة مستقرة في أركان العقل العربي، الذي يبدو وكأنه يتلذذ بجلد ذاته، رافضاً تحريرها، ليبقى رهينة للهيمنة الأصولية المعطلة لأي شكل من أشكال الاستقلال الفكري والمادي.

والمخيف في الأمر أن قوى المجتمع المديني، التي يُنظر لها غالباً كطوق نجاة للتخلص من سطوة الأدلجات الفكرية الفاشلة، لم تسلم هي الأخرى من الاستسلام والتباكي على أطلال الهزائم، أو النكبات، أو الهيمنة الإمبريالية، أو الصهيونية.

الغريب والمحير في تلك القوى، بتياراتها الثقافية والدينية والتكنوقراطية، أنه بدلاً من القيام بدورها الفاعل في تقديم البدائل، تفاجئنا بممارستها لسطوة من نوع آخر؛ فتُساهم، من حيث تعلم أو لا تعلم، في حرمان الفرد من استقلالية الرأي وحرية التفكير، والمبتلى، في علنه وسره، بآفة تصدير ولاءاته يمنة ويسرة، تارة باسم الكتاب المقدس، وأخرى باسم الحزب الواحد، فضلاً عن الانصياع لما دون الديني، كالسرديات المليئة بالثارات.

وجميعها تُعطل فرص انتهاز اللحظات التاريخية التي تتطلب لياقة القفز العالي على ألغام التطرف، من أجل الوصول إلى ساحات المشترك الوطني التي لابد منها، مهما طال السفر.

ولا نُبرئ هنا الفكر الغربي، الذي تسحبه شعبويته الصاعدة أحياناً نحو تطرف موازٍ للتطرف الشرقي. ولكنه على خلاف هذا الأخير، فإن البناء المستقر والقوي للمدنية الغربية يجعل هذا التطرف على مرمى التعرية والتوبيخ والنقد المستمر، لضبط هيمنته وتأثيراته المؤذية الصادرة عن بطاركة التعصب على استقلالية الذهنية الغربية، ولضمان فلترة المجتمع من أية ظواهر تشير إلى ممارسة الولاءات الوطنية في غير مواضعها.

إذن، الحصار الفكري مستمر؛ والهيمنة الأصولية تحكم قبضتها. والوعي المركزي للعقل العربي لا يزال ممزقاً ومشتتا، يعاني من فيروس الولاء «العابر لحدود الوطن».

أما «الحياد اللئيم»، فإنه يزداد لؤماً في وقت الأزمات بالذات، مثيراً كل أشكال الأحقاد والثارات والتحزبات، التي يفترض، في الحالة المثالية، أن تُطرح على طاولة التشريح التاريخي لتقطيع أوصالها ووقف ارتهانها لغير الوطن، على أمل ألا يقوم ذلك الارتهان، الجالب للذل والعار، بأي قائمة أبداً.

* عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة