في زمن يتسابق فيه الخطاب الإعلامي إلى العقول والقلوب، يغدو امتلاك رصيد لغوي قوي نوعاً من الذكاء المؤثر، لا مجرد ترف ثقافي، فكم من كلمة أضاءت درباً معتماً، وكم من عبارة ألهمت جيلاً بأكمله، وكم من خطبة غيّرت مجرى التاريخ وأثرت في النفوس.
إن الذكاء اللغوي ليس حفظاً لمفردات، بل هو قدرة على اختيار الكلمة المناسبة في السياق المناسب، بأثر يتجاوز السمع إلى الوجدان، ومن هنا، تأتي أهمية تنمية هذا الذكاء لدى شبابنا بإحياء اللغة في حياتهم اليومية، وجعلها أداة للنجاح لا عبئاً دراسياً.
شخصياً، لم يكن عشقي للغة العربية في طفولتي كما ينبغي، إذ كانت مجرد مادة دراسية عابرة، لا تثير الشغف، ولا تُشعل الفضول، غير أن الأمر تبدّل حين التقيت بها وجهاً لوجه بعد دراسة تخصص القانون، حيث تجلت أمامي في نصوص الشرع وروائع التشريع، وبين ثنايا الأحكام القضائية والدستورية، هنا انكشفت لي بلاغة القانون، فتراءت لي لغة لا تكتفي بالكلام، بل تُقنع القلوب، وتُحرك النفوس، وتُنصف المظلوم، وتُدين الظالم.
أذكر كيف تأثرتُ بأسلوب عدد من رجال القانون، من الأكاديميين والمحامين والمستشارين، ومن أبرزهم المستشار الدكتور نوفل غربال، الذي كان حديثه درساً في البيان، ومذكراته نموذجاً في رصانة اللغة وعمق الفكرة، ففي كل عبارة يكتبها، كانت اللغة العربية تستعرض قوتها وجمالها، ومنذ ذلك الحين أصبحت اللغة بالنسبة لي أداةً لا للتعبير فقط، بل للتأثير والتغيير.
ومن هنا فإن التساؤل الذي يثور ويستفز الذهن: كيف نُرغّب الشباب في اللغة العربية وننمي رصيدهم الثقافي واللغوي؟
الجواب يبدأ من تصحيح الصورة النمطية عن اللغة العربية، فهي ليست مجرد مادة جامدة تُدرّس، بل كيان حي ينبض بالمعنى، وأداة تعبير تحمل الفكر والمشاعر، وتُشكل وجدان الإنسان وهويته، ويجب علينا أن نُعيد الحياة إلى النصوص، فنُظهر جمال اللغة في تفاصيل الحياة اليومية، لنُثبت أن الفصحى قادرة على مواكبة الحداثة، دون أن تفقد أصالتها.
كما ينبغي أن يكون التفاعل مع المحتوى العصري هو السبيل لترغيب الشباب في اللغة من خلال دروس قصيرة على منصات التواصل الاجتماعي، تُصاغ بلغة فصيحة قريبة من نفوسهم، وتتضمن تجاربَ شبابيةً ملهمة، وإطلاق التحديات اللغوية، والمسابقات للكتابة الإبداعية، ومنصات الحوار التفاعلية التي تجمع بين الفصحى وروح العصر.
ومن أبلغ وسائل التأثير، أن تقع عينا الشاب على من يُجيد العربية قولاً وفعلاً، فيراه رمزاً يُحتذى ولساناً يُقتدى، فتتسلل محبة اللغة إلى قلبه، دون أن يُدرك، فاللغة تنتقل بالعدوى الجميلة، لا بالإجبار، وهنا يجب الإشادة بجهود سعادة وزير التربية والتعليم الدكتور محمد بن مبارك جمعة الذي يحرص دائماً في خطاباته على التحدث بلغة عربية فصيحة وقوية وواضحة، تُحفز الطلبة على التمسك بلغة الضاد، وتزرع في نفوسهم الإيمان بقيمتها ومكانتها، فكان بحق نموذجاً وقدوةً ملهمة.
ختاماً، من امتلك الكلمة، امتلك القدرة على صياغة واقعه، وتغيير مجتمعه، وكتابة تاريخه بيده لا بقلم غيره، فلنمنح شبابنا سلاح اللغة، ليحملوا هويتهم بفخر، ويغرسوا في الأجيال القادمة الإيمان بأن لغتنا ليست فقط وسيلة تواصل، بل هي وعاء للوعي والكرامة والانتماء.