تحيي الأمة الإسلامية اليوم ذكرى الهجرة النبوية الشريفة، والتي مثلت حدثاً مفصلياً في التاريخ الإسلامي، بل والعالم أجمع، حيث لم تكن الهجرة مجرد انتقال جغرافي من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، بل هي في جوهرها رحلة إنسانية تحمل دروساً عميقة في البناء المجتمعي، والتأسيس على قيم التعايش والتكافل والتلاحم المجتمعي والإنساني، إلى جانب كونها عبور من مرحلة الاضطهاد إلى عهد من الرحمة والعدل والإنسانية.
لقد اختار النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، الهجرة طريقاً لبناء مجتمع جديد لا يقوم على العرق أو النسب أو الثروة، بل على ميثاق سامٍ يعلي شأن الإنسان وكرامته قبل كل شيء، فكانت المدينة المنورة نموذجاً عملياً لمجتمع متماسك، أساسه التآخي بين المهاجرين والأنصار، وتقبل الآخر المختلف دينياً واجتماعياً، حيث كتب النبي عليه السلام أول وثيقة مدنية، صحيفة المدينة، والتي تعد أول دستور مدني في تاريخ الدولة الإسلامية، حيث ضمت المسلمين واليهود والمشركين في ميثاق يضمن لهم جميعاً حق الحياة والكرامة والعدل ويؤسس لمفهوم المواطنة في أبهى صورها.
إن الرسائل الإنسانية في هذه الهجرة تتجاوز الزمان والمكان، واليوم ونحن نستحضر هذه الذكرى العظيمة، نحن في أمس الحاجة لإحياء هذه القيم في تعاملاتنا اليومية، فالتحديات المعاصرة وما يطرأ على المجتمعات من استقطاب وصراع وتفكك، تدعونا للعودة إلى النهج النبوي، ذلك الذي جمع بين قيم الإسلام والبعد الإنساني، بين الإيمان والعمل، بين الفرد والمجتمع.
لقد كانت الهجرة تجسيداً لثقافة النصرة والتكافل، حيث آثر الأنصار إخوانهم المهاجرين على أنفسهم، رغم ما هم عليه من حاجة، وهي رسالة واضحة في عالم اليوم لنعيد بناء مجتمعاتنا على أساس التضامن الاجتماعي، ومساندة الضعيف، واحترام التنوع، وتمكين ثقافة السلم الأهلي كحجر زاوية في التنمية والاستقرار.
البحرين ومنذ مئات السنين كانت النموذج الأبرز لقيم الهجرة النبوية الشريفة والامتداد الطبيعي لها، فقد قامت بتاريخها وتنوعها الثقافي والديني على مبادئ العيش المشترك، واحترام التعدد، والانفتاح على الآخر، وهي قيم لا يمكن أن تصان إلا باستحضار الروح النبوية في التعامل مع الاختلاف، وتحويله من مصدر للفرقة إلى نبع للثراء الاجتماعي والثقافي، وتعززت هذه القيم بقيادة تاريخية حكيمة جعلت من هذه الأرض النموذج القدرة والمثل الأبرز في المنطقة والعالم.
في ذكرى الهجرة نحن بحاجة ماسة إلى تجديد العهد مع هذه الرسالة، وأن تكون سياساتنا وخطاباتنا ومؤسساتنا حاضنة للقيم النبوية السامية والمتمثلة في الرحمة والعدل والإيثار والعيش المشترك، عندها فقط نستطيع أن نرسم طريقاً لمجتمع متماسك يتفانى أفراده في خدمة بعضهم، ويحمي نسيجه الوطني من كل تهديد.