في البداية، لم نلحظ شيئاً. كان كل شيء يبدو طبيعياً: ما بين فيديو جذّاب على «الريلز»، وصورة رائعة تتسلّل إلى «إنستغرام»، واقتباس مُلهِم على «تويتر». كل ما نفعله أننا نبتسم، نعلّق، نشارك.. دون أن نفكّر في المصدر، كأن الكون أرسله إلينا، فنقرأ ثم ننتقل إلى ما يليه. لكن ما لم تعلمه، أن هذا المشهد الذي أسر أعيننا لم يُكتَب بقلم كاتب، ولم تُلتقط صوره بعدسة مصوّر، بل هو نتاج عقلٍ خفيّ لا يُرى.. اسمه: الذكاء الاصطناعي.
نعم، لم يعد الذكاء الاصطناعي (AI) مجرد تقنية، بل أصبح الكاتب والبطل على خشبة السوشيال ميديا. لم يعد خلف الستار، بل نزل إلى خشبة المسرح، ليس كأداة، بل كمؤلف ومخرج.. وأحياناً بطل القصة.
فقد تُذهل حين تعلم أن حملة إعلانية ألهمتك لشراء منتج ما، قد كُتبت بالكامل بلغة خوارزمية.
والأمر لا يتوقف عند الكتابة؛ فهذا العقل الاصطناعي يشعر بك أيضاً، ويحلّل مشاعرك. فبفضل تقنيات تحليل المشاعر، بات الذكاء الاصطناعي قادراً على قراءة تعليقاتك، وتفسير نبرة حديثك، وتحليل حالتك النفسية بدقّة: هل أنت غاضب، سعيد، مستاء؟ ثم يقرر كيف يجب أن يكلّمك. بل ويعدّل الرسائل الإعلامية لحظيًا، لتناسب حالتك الانفعالية، ويدفعك إلى مزيد من التفاعل.. وربما الإدمان.
إن كنت تتساءل: من يختار لك المحتوى؟ ولماذا ترى أنواعاً معينة من الفيديوهات دون غيرها؟
فاعلم أن الخوارزميات هي السبب. فهي تُوصي بالمحتوى؛ لأنها تقرأ سلوكك: ماذا شاهدت؟ كم من الوقت بقيت؟ ماذا علّقت؟ ثم تبني عالماً رقمياً خاصاً بك. عالم يحيط بك بلطف.. لكن خطورته أنه قد يعزلك عن الواقع، داخل فقاعة «تشبهك كثيراً»، حتى لا ترى سواها، وهو ما قد يُحجّم تطوّرك الفكري إن لم تعِ ذلك وتقاومه.
بل الأخطر من ذلك – والذي قد لا يخطر في بالك – أن (AI) يرى أيضاً. فتقنيات الرؤية الحاسوبية تمنحه «عيناً رقمية»، تُمكّنه من تمييز الوجوه، والتقاط المشاعر من الصور والفيديوهات الخاصة بكل مستخدم، ثم يُبلغ الخوارزميات بها.
ويذهب أبعد من ذلك، حيث يستخدم ما جمعه عنك من بيانات، ليتحدث إليك، ويحرّر المضامين التي تقرؤها، بل ويقلّدك أنت بالذات. فـ»روبوتات الدردشة» تردّ عنك، وأدوات التحرير تضبط الصوت، والإضاءة، والخلفية.
والآن، بدأ الذكاء الاصطناعي يقتحم عالم المؤثرين، وما يثير الدهشة أنه بات له آلاف المتابعين؛ متابعين لمؤثرين غير موجودين في الحقيقة. حتى «الترند» لم يعفُ من تدخل الذكاء الاصطناعي، فلم يعد وليد تفاعل طبيعي، بل أحياناً يُزرَع في ذهنك زراعة.. ترند مصطنع، خُطّط له مسبقاً، واختير لك كي تراه في اللحظة التي تكون فيها أكثر فضولاً لهذا النوع من المحتوى.
ثم هناك الظاهرة الأخطر وهي الكذب الجميل والتزييف العميق. فمع ظهور محتويات «ديب فيك»، عبر صوت يبدو حقيقياً، أو صورة لا تشوبها شائبة، أو فيديو يوثق ما لم يحدث قط.. يصبح الكذب أقرب إلى الحقيقة.
لكن، لحسن الحظ، هناك من يعمل في صمت لكشف هذه الأكاذيب. فالمعركة مستمرة بين الخداع والحقيقة، بين من يصنع التزييف، ومن يحاول كشفه، لنبقَ متيقظين.. من سينتصر؟ الزيف أم الحقيقة؟
إننا في زمنٍ أضحت فيه الخوارزميات تتكلّم، والذكاء الاصطناعي يُعيد تشكيل وجه السوشيال ميديا.
وبات علينا أن نسأل أنفسنا بصدق: هل ما زلنا نختار ما نشاهده؟ أم أن الخوارزميات اختارت لنا كل شيء مسبقاً؟
* أستاذ الإعلام الرقمي المساعد