مع تصفحي لصحيفة «الوطن» التي تلامس مواضيعها حياة المواطن اليومية، استوقفتني مقالة الأستاذة سوسن الشاعر بعنوان «مع الأسف.. السبب 6 آلاف دينار سنوياً فقط». كنت أقرأ وأغرق في تفاصيلها حتى طار ذهني بعيداً، ليحط في «فرجان» المحرق القديمة، عند الفرضة وصوت البحّارة، وهم يستعدون لموسم الغوص، ولؤلؤة ربما سقطت من يد الزمن، ولم تجد طريقها إلى الأرشفة الرقمية بعد.

قصة غريبة طفت في ذاكرتي فجأة، تعود إلى عام 2005 حين كنت أتمشى في أحد شوارع اسكتلندا الباردة، حيث لم تكن الأجهزة الذكية قد غزت جيوب الناس بعد. وسط الشارع، ظهر رجل بزيّه الاسكتلندي التقليدي يصدح بموسيقى القِرَب بكل كبرياء. اقتربت منه، وطلبت بأدب شديد التقاط صور له من عدة جهات، بهدف تحويل المشهد لاحقاً إلى صورة ثلاثية الأبعاد. ما أدهشني حقاً، أنه بعد انتهاء التصوير، أخرج من جيبه بكل بساطة بطاقة أعمال (بزنس كارد) أنيقة، ويا للعجب، عليها رابط لموقع إلكتروني خاص به! لم أستطع مقاومة فضولي، وفور عودتي للسكن سارعت للدخول إلى الموقع لأجد صوره، سيرته الذاتية، وجدوله اليومي وأماكن تواجده! شعرت وقتها أن هذا الرجل سبق عصره، رغم كونه موسيقي شارع بسيط.

بعد سنوات طويلة من هذه القصة، ورغم كل التطورات التي شهدناها في العالم الرقمي، ما زلتُ كلما تحدّثت مع بعض الجهات في البحرين عن ضرورة امتلاك موقع إلكتروني رسمي، يردّون عليَّ بابتسامة ساخرة: «من يحتاج إلى موقع الآن؟ يكفينا الإنستغرام وتويتر!». يبدو أن مفهوم التواجد الرقمي الرسمي لم يصل بعد إلى الوعي الكامل لدى بعض مؤسساتنا، التي تفضّل أن تترك تاريخها وبياناتها وحكاياتها متناثرة في منشورات مؤقتة تتلاشى في غضون أيام.

مقالة الأستاذة سوسن الشاعر، رغم تركيزها على المكتبة الوطنية وغياب منصتها الرقمية بسبب 6 آلاف دينار فقط، هي في الواقع جزءٌ صغير من مشكلة أكبر وأعمق. فغياب هذه المنصات عن مؤسساتنا يعني بكل بساطة أننا نترك تاريخنا وذاكرة مجتمعنا عرضة للضياع والنسيان. في زمن أصبح فيه الذكاء الاصطناعي يلتهم كل معلومة يجدها على الشبكة العنكبوتية، ويحولها إلى معرفة تخدم البشرية، نصرُّ نحن على إخفاء كنوزنا الثقافية خلف جدران الصمت الرقمي.

ولعلك مثلي، حين تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي للبحث العميق، تُفاجأ بأن كثيراً من النتائج تأتي من تقارير وأخبار نُشرت في صحيفة «الوطن» نفسها! أليس هذا دليلاً عملياً بسيطاً على أن ما نزرعه اليوم رقمياً سنحصده غداً كمرجع موثوق ومصدر رسمي لا غنى عنه؟

إن بناء حضور رقمي قوي ليس ترفاً أو «فشخرة»، بل هو ضرورة لا تقل أهمية عن توثيق تراثنا وتاريخنا، وحفظ ذاكرتنا الوطنية من الضياع. كل معلومة أو صورة أو وثيقة ننشرها إلكترونياً هي بمثابة لؤلؤة نضيفها إلى قلادة تاريخ البحرين، التي سيتزيّن بها أجيالنا القادمة.

لذا، في المرة القادمة عندما تجد نفسك مبتسماً باستخفاف لفكرة امتلاك موقع إلكتروني رسمي، تذكّر ذلك الاسكتلندي الذي سبقك بخطوات عديدة في شارع بارد قبل عشرين عاماً، ثم تذكّر جيداً أن التاريخ لا يرحم من يتأخر عنه. ومن يدري؟ لعل هذه المقالة نفسها تصبح يوماً ما مصدراً لبحثٍ في المستقبل!

* خبير تقني