خلال رحلة العودة من الشارقة لم يكن في الحقيبة سوى كتاب واحد قررت اصطحابه خصيصاً ليكون رفيق مقعدي في الطائرة: رحلة كرستجي إلى الخليج (ملاحظات على عنصرية الرحالة)، إصدار جديد للدكتور عبدالعزيز المسلم، رئيس معهد الشارقة للتراث، كتاب صغير الحجم، لكنه ممتلئ بالسرد، والتفاصيل، والقراءة النقدية التي لا تستطيع أن تترك الكتاب قبل أن تنهيه، ولقد شرّفني الدكتور عبدالعزيز المسلم بتوقيعه في حفل التدشين على هامش المؤتمر.
شدني الفضول للبحث عن النسخة الأصلية ونسخته الأخرى المترجمة للعربية للكتاب الذي كتبه الرحالة كرستجي بعنوان «أرض النخيل» والذي يشعرك في الوهلة الأولى بأنه مجرّد توثيق لرحلة بحرية بين بومباي والبصرة أواخر القرن التاسع عشر، ولكنك فور تصفحه ستجد أنه يحمل في طيّاته أكثر مما تقوله العناوين، ولقد كشف الدكتور المسلم، في قراءة نقدية بارعة عن نص مشبع بالنظرة الاستشراقية التي طبعت معظم المدوّنات الأوروبية والبريطانية والهندية عن العرب والمسلمين في تلك الفترة، ولعل أكثر ما يلفت في هذا الإصدار هو أنه يقدّم صورة مشوهة لطريقة رؤية الآخر لنا، في زمن تقاطعت فيه القوة العسكرية بالنفوذ الثقافي.
لكن بعيداً عن اللغة الفوقية التي يستخدمها كرستجي في كتابه من خلال وصفه للركّاب العرب والفرس، وعن احتقاره للبيئة الاجتماعية التي مرّ بها في رحلته، فقد استوقفتني إشارات دقيقة ومهمة عن البحرين، التي كان لها نصيب وافر من الاهتمام في صفحات الكتاب، وتحدث كرستجي بشكل مفصل عن المنامة، ولن أخوض في تحليل حديثه عن المنامة، ولكن لفت انتباهي حديثه بشكل مسهب وبنبرة مختلفة عن شخصية فذّة نقشت اسمها في الذاكرة التجارية والسياسية للبحرين والمنطقة، وهو الوجيه يوسف بن أحمد كانو رحمه الله.
في المنامة لم يلحظ كرستجي مشهداً «صاخباً وغير نظيف» كما وصف غيرها من الموانئ، وقال بأنها منظّمة بطريقة طبيعية، ثم انتقل فجأة للحديث عن لقاء راقٍ مع رجل محترم، رحّب به في مجلسه، وقدّم له القهوة العربية، وتحدث إليه بالإنجليزية بطلاقة، وأشار كرستجي إلى أن يوسف كانو كان يتحدث كمن خَبِر العواصم الغربية، يفهم التجارة والاقتصاد والسياسة، ويقرأ القادم من وراء البحر بعين فاحصة، دون أن ينسلخ عن جذوره أو عن احترامه لضيفه.
هذه الكلمات التي دوّنها كرستجي في مدوّنات رحلته تجاوزت كونها مجاملة عابرة في نص استشراقي غارق في الأحكام المسبقة، فهي جاءت كاستثناء نادر، كأن الكاتب نفسه اضطر للاعتراف بأن ما رآه في المنامة -ممثلاً بشخصية يوسف بن أحمد- يهزّ الصورة النمطية التي تشبّع بها، والتي تظهر واضحة في النص، فهو لم يكتفِ بمدحه، بل وصفه بأنه محترم بين قومه، واسع العلاقات، حاضر الحيلة، يسيّر أمور تجارة مزدهرة مع الهند والخليج، ويعرف كيف يحاور البريطاني بلغته ويخاطب مجتمعه بمنطقه.
إن استحضار هذه الشخصية اليوم هو استحضار لبُعد أصيل في تاريخ البحرين: مكانة تميّزت بالانفتاح على العالم دون الذوبان فيه، وقيادات محلية جمعت بين الأصالة والحداثة، بين الكرم التقليدي والذكاء التجاري، فالوجيه يوسف بن أحمد كانو يُعد نموذجاً لرجل أعمال وطني سبق زمانه، وشكّل في وعي الآخر صورة مناقضة تماماً للصورة التي حاول أن يفرضها الخطاب الاستشراقي عن العرب والخليج.
وفي ختام قراءتي، لم أفلت من ملاحظة أن الكاتب -رغم إعجابه- بالبحرين إلا أنه كانت هناك سلبيات كثيرة وصف بها المكان وملاحظات حول النظافة، كذلك لم يُخفِ انتماءه الديني والثقافي حين ذكر زرادشت وخسرو بكلمات فيها من الحنين والتمجيد أكثر مما قاله عن أي شخصية عربية أو إسلامية، مما يشي بخلفية مجوسية زرادشتية، وتربية بريطانية أثرت بوضوح على منظوره الثقافي.
أشكر معهد الشارقة للتراث على هذا الإصدار الراقي، وأشكر الدكتور عبدالعزيز المسلم على مشروعه الفكري المتواصل في تحليل هذه النصوص وتحويلها من وثائق خام إلى أدوات وعي نقدي، فنحن نقرأ ما كُتب عنا لنفهم كيف رُسمت صورتنا، ونعيد كتابتها كما نراها نحن، بثقة تستمد من التاريخ قوتها، ومن الحاضر معناها.