علم التاريخ هو أحد العلوم وحقول المعرفة الإنسانية والاجتماعية الهامة، وهو سجل حياة ومنجزات الشعوب والدول والأمم. أما موضوعه، وبحسب ابن خلدون، فهو الإنسان والزمان: "وهو فنّ عزيز المذهب، جمّ الفوائد، شريف الغاية، تُشدّ إليه الركائب والرحال" ويقبل على قراءته ومعرفته، وأخذ التجارب والخبرات والعبر منه العلماء والمعلمين والفلاسفة والقادة ورجال الدولة وسائر الناس،
إلا أنّ هذا العلم، وهذا الحقل المعرفي العزيز، قد أصابه الحيف والغبن؛ إذ لم يركّز أغلب المختصين فيه على مغزاه وغاياته، إلا ما ندر، واكتفى كثيرٌ منهم بظاهره من معلومات، وسنوات أحداث، وأسماء شخصيات، وحوادث.
وممّا زاد الأمر تعقيداً أنّ بعض الهواة، ممن هم بعيدون عن ميدان علم التاريخ وغير المتخصصين فيه، قد خاضوا فيه تأليفاً وتدريساً وتنظيراً، دون إلمامٍ كافٍ بمفاهيم هذا العلم وأبعاده ومغزاه، ولا بمنهجية البحث التاريخي وأصوله، وعدم امتلاكهم مهارات قراءة النصوص الواردة في المصادر التاريخية أو تحليلها ونقدها، أو استيعاب واستنباط النتائج والدلالات التاريخية منها، وتوظيفها بشكل علمي. وقد شارك في هذا التوجه عدد من المهتمين بحسن نية، وربما بدافع الحماسة، رغم افتقار الطرح أحياناً إلى الدقة والعمق المطلوبين. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل إنّ بعض هذه القراءات الناقصة أو المغلوطة قد تم تبنيها وتكرارها في المؤلفات والمحاضرات وكأنها مسلّمات، فساهموا في تشويه حقائق التاريخ. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل انعكس هذا العرض وتشويه الحقائق أحياناً بشكل سلبي على هوية الأجيال ومدى اعتزازهم بتاريخهم وموروث أجدادهم.
ولعلّنا نضرب مثالاً يُظهر أهمية التوظيف السليم للحوادث التاريخية واستنباط دلالاتها، من خلال حادثة استقبال أهل البحرين للإسلام بعد وصول رسالة النبي ﷺ إلى المنذر بن ساوى التميمي، بيد العلاء الحضرمي. فقد كان تجاوب أهل البحرين سريعاً وإيجابياً، حيث دخل كثيرٌ منهم في الإسلام عن قناعة وإيمان، بل وانتشر الإسلام في الإقليم انتشاراً واسعاً، ممّا يدل على أنّ هذا القَبول لم يكن وليد صدفة أو رهبة، بل كان نتيجة بيئة مهيأة ثقافيًا واجتماعياً واقتصادياً.
إنّ البحرين، بحكم موقعها الجغرافي، كانت على تماسٍ دائم مع حضارات وثقافات متعددة، وكان أهلها يمارسون التجارة والنشاطات الاقتصادية المختلفة، ممّا صقل شخصيتهم، وعرّفهم على الديانات والمفاهيم الفكرية المتنوعة. هذا الانفتاح أسّس لثقافة قبول الآخر، والحوار، والتسامح الديني، وهو ما جعلهم مؤهلين لتقبّل الإسلام بسلاسة. كما لعبت القيادة المحلية دوراً حاسماً في هذا التحول، حيث كان المنذر بن ساوى من أصحاب الحكمة والتأثير، فكان لإسلامه دور كبير في دخول القبائل الأخرى في الإسلام. إنّ هذه الحادثة لا تُقرأ لمجرد التوثيق، بل للتوظيف. فهي تحمل رسالة قوية حول الوعي المجتمعي، والانفتاح الحضاري، ويمكن من خلالها تعزيز الفخر بتاريخ أهل البحرين، وتأكيد دورهم الإيجابي في مسيرة الإسلام والحضارة العربية الإسلامية.
وهنا تتجلى أهمية قراءة التاريخ قراءة علمية واعية، لا تقف عند ظاهر النصوص أو الروايات، بل تتعمق في سياقاتها وتحلّل معطياتها. ومن خلال ذلك فقط يمكن أن نرسّخ الثقة بتاريخنا، ونرسّخ هويتنا، ونعزز الانتماء الوطني والثقافي، ونستلهم من التاريخ دروساً حية للحاضر والمستقبل. قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ﴾، وقال أحد المفكرين: "رُبّ درس في التاريخ بنى أمة".
إلى المهتمين بالتاريخ والخائضين في شؤونه، نُذكّركم بأهمية احترام التخصصات العلمية وإفساح المجال لأهل الاختصاص والخبرة للقيام بدورهم في تحليل الوقائع وتفسير أحداث التاريخ. قال الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. كما نحثُّ المتخصصين والهواة ودارسي التاريخ على قراءته قراءة علمية موضوعية، تعتمد على المنهج التاريخي وأدواته، وتقوم على الصبر في البحث والتحري والتدقيق والمقارنة، للوصول إلى الحقائق التاريخية وكشفها. فالفهم العميق للتاريخ يسهم في تحقيق مقاصده، وحسن توظيفه في فهم الحاضر، وتعزيز الهوية، واستشراف المستقبل، ودعم خطط التنمية الوطنية.
* باحث في التاريخ وأكاديمي