كما نعلم جميعاً بأنه في السياسة، لا تُمنح الكلمات بسهولة، ولا تُلتقط الصور الرسمية لمجرد المجاملة، فحين وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم حفظه الله ورعاه، بأنه يحظى بالاحترام الكبير في الشرق الأوسط والعالم، كان يتحدث من موقع مؤسسة تعرف بدقة ما تقول، ومتى تقول، ولمن توجه رسائلها وخطابها، فالعبارة جاءت في قلب البيت الأبيض، وأمام الصحافة، وترافقت مع استقبال شخصي نادر، حين خرج الرئيس الأميركي من بوابته الرئيسية، ووقف على مدخل البيت الرئاسي لاستقبال صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء.في هذا المشهد الذي لا يتكرر كثيراً في البيت الأبيض تظهر أوزان العلاقات أكثر من البروتوكول، فالرئيس الأمريكي لا يغادر مكتبه لاستقبال كل الضيوف، والبيت الأبيض لا يُستعمل ساحةً رمزية إلا عند الضرورة، فالاستقبال كان سياسيًا بامتياز، وبدلالات أمنية واقتصادية لا تغيب عن الجمهور المراقب.تاريخ العلاقات البحرينية الأمريكية أطول من عمر الدولة الحديثة، في عام 1893، سُجّل أول حضور أمريكي في البحرين، من خلال بعثة مدنية وطبية وتعليمية قادتها مجموعة العجلة، واشتهر منها القس صامويل زويمر، ومن خلال جهوده آنذاك تأسست عيادة صغيرة، ثم تطورت في مراحل تاريخية حتى أصبحت مستشفى الإرسالية الأمريكية الذي يقع اليوم في قلب المنامة، ومنذ ذاك الزمن فتحت أول نوافذ الاتصال بين البلدين، ولم يُقطع، ولكنه تطور مع بدايات القرن العشرين في عوالي، حيث دخلت الشركات الأميركية في منظومة الطاقة الوطنية، وبات للمنامة حصة في خرائط المصالح الأمريكية بمنطقة الخليج العربي.إن زيارة سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء إلى واشنطن هي دفع إلى الأمام في سياق دولي متغير، كما أن حزمة الاتفاقيات التي وُقعت بقيمة 17 مليار دولار فيها دلالات كبيرة على توجه مشترك نحو بناء نموذج اقتصادي متكامل، فالقطاعات شملت الطيران، الألمنيوم، الطاقة النووية، والتكنولوجيا، وكلها مجالات تمثل اليوم خطوط التماس بين الدول الكبرى، والدور المحوري في التفاوض والتنسيق قاده معالي الشيخ سلمان بن خليفة آل خليفة، وزير المالية والاقتصاد الوطني، بإدارة واعية لفرص الشراكة، وربط مدروس بين الداخل البحريني وحركة رأس المال الدولي من خلال عمل كبير قامت به الحكومة والمؤسسات ضمن فريق البحرين.من ناحية استراتيجية، جاءت هذه الزيارة لتُفعّل اتفاقية «C-SIPA»، الإطار الشامل للتكامل الأمني والازدهار، الموقع في 2023، والتي تحولت بانضمام المملكة المتحدة إلى تحالف ثلاثي يرسم خطوطًا جديدة في خريطة الشرق الأوسط، فالاتفاقية تتجاوز المفهوم التقليدي للتحالفات العسكرية، إذ تمتد لتشمل البنية الرقمية، والأمن السيبراني، وسلاسل الإمداد، وهو ما يعكس دور البحرين كحلقة وصل محورية في معادلات التعاون الإقليمي والدوليلم تكن زيارة سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء إلى واشنطن مخصصة لتبادل العبارات الدبلوماسية أو إدارة تفاوض تقليدي، وإنما حملت معها رؤية تنفيذية واضحة المعالم، تقوم على ثلاث ركائز: تعزيز مسارات التعاون القائم، توسيع دوائر الشراكة، وتفعيل روابط جديدة بين الاقتصاد والأمن، وبين الاستقرار والتنمية، فالحضور البحريني في هذه الزيارة تجسّد من خلال النتائج المحققة والاتفاقيات المنفذة، وليس بتصريحات رسمية ذات طابع إنشائي. الزيارة إلى واشنطن أزاحت الستار عن مرحلة جديدة في تموضع البحرين داخل المشهد الإقليمي والدولي، فما جرى أمام البيت الأبيض، وما تلاه من اتفاقيات واستحقاقات في المكتب البيضاوي، يضع الدولة في موقع المبادرة، ما يؤكّد أن تحرك البحرين يستند إلى تخطيط مدروس، واستيعاب دقيق لطبيعة المرحلة الإقليمية، وتبني حضورها من خلال القرار والسياسة والاستثمار، في لحظة لا تمنح وزناً إلا لمن يتقن السياسة الخارجية والداخلية.