في زمنٍ لا تحتاج فيه إلى جواز سفر لتدخل عوالم الآخرين، أصبح العقل البشري هو الحدود الجديدة.. والاختراق لم يعد إلكترونياً فقط، بل فكرياً أيضاً. فنحن نعيش في عالم يُعرَف بالمعلومة وبالمنصة، ولم تعد وسائل الإعلام الرقمية مجرد نوافذ نطل منها على العالم، بل أصبحت غرفاً كاملة نعيش داخلها، نستقي منها الأفكار والأخبار، وتحدد قناعاتنا، بل وتشكل مشاعرنا.
حتى أضحت اللاعب الأكبر في تشكيل العقول، وتوجيه الرأي، أو حتى اختطافه. فتُصاغ فيها المفاهيم أحياناً خارج جغرافيا المنطق. وفي هذه الفوضى المعلوماتية، يصبح «الأمن الفكري» درعاً لا غنى عنه، لا لحماية الأوطان فقط، بل لحماية الإنسان من السقوط في التضليل، والتلاعب بالعقول.
يعد «الأمن الفكري» الدرع الذهني الذي يحمي الإنسان من التشويش، والتضليل، والعبث بالهوية، والانتماء. فهو حصانة العقول في زمن الانفتاح اللامحدود وهو الشعور الجمعي الذي يحصّن الإنسان من الانزلاق إلى الأفكار أو المعتقدات المضلّلة وهو حالة من الاتزان العقلي، والطمأنينة النفسية، والقدرة على مقاومة التشويش والتزييف في عالم تُبث فيه السموم الفكرية عبر قنوات التواصل الحديثة فالأمن الفكري ليس شعارات تُرفع، بل هو حصانة ذهنية ضد محاولات الغزو الثقافي الموجه للشباب والتفكك الأسري والفراغ التربوي.
وتزييف القيم ونشر الشائعات والأخبار الكاذبة التي تزرع الشكوك، وتشوش اليقين كل هذه التحديات تشكل قنابل فكرية موقوتة، قد تؤدي إلى اختلالات اجتماعية وأمنية خطيرة إن لم تُعالَج بوعي واستباق.
لذلك يأتي دور الأمن الفكري ليغرس في الإنسان مناعة فكرية تمنعه من الانجراف خلف كل ما يُنشر، ويُصوَّر، ويُروَّج له في وسائل الإعلام والسوشيال ميديا، لكن الوعي بتوظيفها في خدمة الأمن الفكري وتعزيزه يجعلها منابر للضوء، بدلاً من أن تكون ممرات للعتمة، ففي زمن «المؤثرين»، أصبح الخطر قادماً من الشاشة التي نحملها في أيدينا عبر كل «ستوري» تحمل رسالة، وكل «ترند» يصنع رأياً عاماً بوعي أو بدون .
وبهذا قد يصبح اللاوعي أرض المعركة عبر التلاعب بالمفاهيم بأسلوب ناعم، عبر محتوى ترفيهي خادع، أو أخبار مزيفة مقنّعة بلغة جميلة.
ومؤثرات تجذب الانتباه وهنا يبرز تساؤلا ما العلاقة بين هذه المنصات وصون الأمن الفكري؟ وهل هي حليف ناصح أم عدوّ متخفٍّ في هيئة محتوى جذّاب؟ وهل المنصة الإعلامية هي صوت للجماهير أم صدى الفوضى؟ الواقع أنه لم تكن المنصات الإعلامية يوماً مجرد أدوات لنقل الخبر، بل – في زمن الإعلام الجديد – تحولت لفاعل في تشكيل الوعي الجمعي. فأصبح لكل شخص «ميكروفونه الخاص»، ولكل فكرة طريقٌ للانتشار مهما كانت سطحيتها، أو زيفها . فهذه المنصات فتحت الأبواب للإشاعات معلفة في كلمة «عاجل»، وتُبثّ بعناية لتصيب عقولًا ما زالت تتعلم كيف تفكر.
لكن هذه الوسائل يمكن أن تكون قوة تنوير وتحفيز ووقاية. عبر فيديوهات هادفة، وبودكاستات توعوية، لخلق بيئة رقمية تشيع القيم الإيجابية وتمكن الشباب من التمييز بين المحتوى الهادف والسام وهنا يبرز دور الأمن الفكري لحماية العقول من التلاعب، وبناء قدرة الفرد على التمييز بين المعلومة والادعاء، بين الحقائق والدعاية وبين الرأي الموضوعي والمتحيز وهنا تتجلّى أهمية المنصات الإعلامية الواعية، القادرة على أن تُشكّل حائط صدّ أمام الفكر الزائف، بل وتصير شريكًا فاعلًا في نشر الوعي، وتعزيز قيم التسامح، والانتماء.
السؤال الأهم الذ يطرح نفسه.. ما ملامح المنصة الأمنة التي تعزز الأمن الفكري؟ هي التي تعطي كل فكرة حقها من التحليل. وتُسلّح الجمهور بالمعرفة، وتُقدّم المعلومة من مصادر موثوقة، وتكشف أساليب التلاعب.
وتُعزّز الهوية الوطنية وتُربّي العقل عليها. وهو ما يتطلب تربية إعلامية تُمكّن الشباب من قراءة المحتوى بنظارات التحليل. وتمكين مؤسسات التعليم والإعلام من تقديم خطاب موثوق، جذاب، متجدد. وتصميم حملات رقمية تشارك فيها النخب الثقافية والمؤثرون الإيجابيون.
وبهذا يصبح الإعلام درعا وقائيًا للأفكار تحمي العقول من التلوث المعرفي والانزلاق في مستنقعات الفكر الموجّه. فنحن بحاجة إلى أن نُعلّم أبناءنا: كيف يُفكّرون.. لا بماذا يُفكّرون. فمن لا يملك فكره، لا يملك مستقبله فالأمن الفكري ليس رفاهية فكرية، بل ضرورة وطنية.. لأنه إذا ضاع الوعي، ضاعت كل الإنجازات.
إن الاستثمار في بناء منصات إعلامية آمنة، هو استثمار في أمننا الفكري، وفي مستقبلنا الوطني. فلتكن المنصة منبراً للنور، لا ممراً للعتمة. ولنكن جمهوراً لا يستهلك المحتوى، بل يحلله.
* أستاذ مساعد في الإعلام الرقمي