سقَتنا سفينة حنظلة مرارةً ليست ككلِّ المرارة، فحنظلة هي ثمرةٌ مُرَّة، وحنظلة هنا سفينةٌ أشدُّ مرارة. فهذه السفينة التي أبحرت مؤخراً من ميناء مرسيليا الفرنسي، متحدّيةً قرارات الإغلاق، وحاملةً نشطاء من شتى الأجناس والديانات، جاءت لتُذكِّرنا بمرارة العزّة والكرامة.

هؤلاء النشطاء، البعيدون عن غزة عِرقاً وديناً، كانوا أكثر منّا رحمةً وشفقةً على أطفالها ونسائها وشيوخها. لم تحتمل مشاعرهم الإنسانيّة صور الموت الصامت الذي يُطبِق على المستضعفين في الأرض، فأبت ضمائرهم إلّا أن يكون لهم دورٌ حقيقي، لا مجرّد خُطبٍ صمّاء أو تصريحاتٍ عاطفيّة. خطوةٌ جريئة محفوفةٌ بالمخاطر، رغم علمهم بوحشيّة الطرف الآخر الذي أعلن جهاراً نهاراً تجويعَ وتصفيةَ أهل غزة، ومنعَ وصول أبسط مقوّمات الحياة إليهم.

العالم بأسره، في أقصى درجات غضبه، يُطالب بسرعة إدخال المساعدات ووقف إجراءات التعطيل التي يُمارسها الكيان المحتل. لكن إلى من تُوجَّه هذه المناشدات؟ هل لها أُذُنٌ صاغية؟ أم أنّها مجرّد وسيلة لقول: «لقد فعلنا ما يجب فعله»؟ لا خطوات حقيقيّة، ولا أفعال ملموسة من مشرق الأرض إلى مغربها، فالكلّ يتحاشى الوقوف في وجه هذا المسخ البشري.

أمّا المؤسّسات الدوليّة، التي يُفترض أنّها صوت الضعفاء، فقد اكتفت بإصدار بيانات تنديدٍ خجولة، لم تُترجَم إلى أفعالٍ رادعة أو إجراءاتٍ توقف هذا الجنون. هي الأخرى، ربما، أرادت فقط أن تقول: «تكلّمنا»، ثمّ سكتت كأنّ شيئاً لم يكن.

لا أدري كيف يستطيع البعض أن يصف دولة الاحتلال بأنّها دولةُ حقٍّ وعدلٍ وديمقراطيّة، وأفعالها تجاوزت طغاةَ العصرِ القديمِ والحديثِ في بشاعتها.

إنّ إنقاذ أهل غزة لا يتطلّب المستحيل، ولا الدخول في حربٍ مع الاحتلال. كلّ ما نحتاجه هو إرادةٌ صادقة، وجهدٌ بنيّةٍ مخلصة ننتصر فيه لإخواننا. وأبسط مثال على ذلك ما قام به إخوةٌ من مصر، حين وضعوا العدس والطحين في قناني بلاستيكية ورموها في البحر، على أمل أن تصل إلى أهل غزة. كانت نواياهم صادقة، ورغم بساطة فعلهم وصغره، إلّا أنّه كان عظيماً لدى من التقط تلك القناني على شواطئ غزة. نعم، وصلت القناني، وشاءت إرادة الله أن تُنقذ هذه الكميّة البسيطة إنساناً أو طفلاً من الموت لأيام. هذا هو المطلوب منّا: أن نجتهد في الدفاع عن الحق والنصر، والنتيجة من الله.

وما يُؤلم في هذا المشهد، أن هناك منّا من لا يزال يردّد مقولات الأمس، «لو لم يبدأ الفلسطينيون... لو استسلموا... لو سلّموا المحتجزين... لو قبلوا بالتقسيم...»، وكأنّه يُعيد القضيّة إلى نقطة الصفر. لا تدري، أهو يُبرّر أفعال المحتلّ الصهيوني، أم أن في نفسه عزةً تأبى عليه أن يتراجع لحظات عمّا قاله سابقاً؟ نعم، نختلف ونتباين في وجهات النظر، لكنّ هناك مواقف لا تقبل النقاش، ولا تحتمل الحياد، أن تتوقف هذه المجازر فوراً، وأن يُمنح الفلسطينيون حقوقهم كاملةً، دون تأخير أو انتقاص.

شكراً لسفينة حنظلة التي سقَتنا مرارةَ العزّ، وذكّرتنا بتقاعسنا. شكراً لأهل مصر الذين بادروا بفعلٍ عجزت عنه أممٌ ودولٌ عُظمى. إنّها مرارة العزّة التي تُحيي الضمائر وتُوقظ الأمّة.