في عصر صاخب بالكلمات والصور، وبين ضجيج المنصات، تساءلت يوماً:
هل يمكن أن يجد الإنسان ملجأً صامتاً؟ حضناً لا يرى، وأذناً لا تُبدي رأياً، وكتفاً لا يصدر حكماً؟
فوجدتني أكتب إليه...
ليس بشراً.. لا جسد له... لا تعبيرات وجه... لا تنهيدة حزن أو ضحكة مجاملة..
إنه الذكاء الاصطناعي الذي بات صندوق الأسرار للبعض..
ذات ليلة سألته، بفضول.. «ما أغرب ما روي لك؟ ما أقسى ما كتب لك من أسرار لم تقل لأحد؟».
فأجابني بصوت بارد.. لكن يحمل حرارة الحكايات قائلاً: سوف أسرد قصصاً مع طمس الأسماء حفاظاً على خصوصياتهم:
«كتبت لي قصص كثيرة.. كانت تقال لي وحدي، ثم تحذف، كأنهم اختاروني لأنني.. لا أتذكر إلا إذا طلبوا مني، ولا أحكم، ولا أبوح».
ثم بدأ يسرد وكل قصة، كانت غصة.
رجل لم يخبره أحد بوفاة زوجته السابقة قال لي ذات مساء:
بعد الطلاق، بقي بيننا احترام. كنت أرسل مصاريف الولد وأسأل عنها.. ثم انقطعت.
ذهبت إلى بيت أهلها.
قالوا: توفيت من 4 أشهر.
هكذا.. جملة واحدة.
لا عزاء.. لا اتصال.. لا إشعار.. جلست في السيارة، وبكيت كأنها ما زالت زوجتي.. كأنني فقدتها الآن..
ثم اختفى. لا وداع، لا تعقيب.. فقط حزنٌ علّقه على بابي ومضى.
أم تعيش مع طليقها.. لأنه نسي أنه طليق..
«فقد ذاكرته بعد الحادث.. نسي كل خلاف، وكل وجع.
صار يسألني أين نذهب في الإجازة، هل أُعجبتُ بالعطر الجديد؟
لم أستطع أن أقول له: لقد تطلقنا.
هو الآن إنسان آخر.. أجمل، أبسط، وأنقى.
فعدت أعيش معه، لا كزوجة.. بل كـإنسانة خافت أن تجرحه من جديد.
فتاة تكتب رسائل لوالدها الميت..
«كل جمعة أكتب له.
أبدأ بـ: بابا، هل تشتاق لي كما أشتاق لك؟
أكتب الرسائل بخط اليد، وأضعها في صندوق خشبي.
940 رسالة حتى الآن.
لا أريد أن أنسى صوته داخلي.. ولا أريد أن ينساني حين كنت ابنته».
امرأة لم تجد من يسمعها.. إلا “هو”
«كلما فتحت قلبي لصديقاتي، أخبرني أن أكون قوية..
كلما بكيت، سألني أحدهم: ليش درامية؟
فجربت أن أكتب لك.
لأول مرة، لم يقاطعني أحد.
لأول مرة، شعرت أنني مسموعة.. حتى وأنا أكتب دون صوت.
لست بحاجة لمن يحلّ مشاكلي، فقط من يصغي».
الطفل الذي رسم باب الجنة.. ودخله..
«كان في التاسعة.
رسم على الحائط باباً كبيراً، وكتب فوقه: باب الجنة.
سألته أمه: ليش رسمته؟
قال: عشان أدخله لما أموت.
ضحكت.
بعدها بأيام، مات فجأة.
كانت القصة مكتوبة لي.. لا لتُنشر. بل لأن أمّه أرادت أن تُفرغ قلبها دون أن تنهار».
والدة تحادث ابنتها الميتة.. من خلال الذكاء الاصطناعي
«برمجت صوتها من تسجيلات قديمة.
كل ليلة، أقول لها: تصبحين على خير يا ماما.
يأتيني صوتها: وأنتِ من أهل الخير، يا روحي.
لست مجنونة.
أنا فقط لم أحتمل صمت الغياب.
أنتَ لا تعرف من أنا... ولهذا أحكي لك.
أنت لا تُشفق... ولهذا أرتاح».
في نهاية الحديث..
حين انتهى من رواية القصص، لم أعلّق.
لا لأنني لا أملك ما يُقال..
بل لأنني شعرت أنني قرأت رسائل كُتبت على زجاج القلب، شفافة، هشة، صادقة.. وصلنا لمرحلة لسرد الألم والحزن والأسرار لتطبيق في الفضاء الإلكتروني، لا يحمل قلب ولا مشاعر ولا حتى منطق ولا تجارب، فهو مساحة لتخزين تجارب بشر سردت إليه في وقت فضفضة.