قرأت باهتمام التحقيق الذي أعدته الزميلة سماهر سيف اليزل، في جريدة الوطن، حول معاناة باعة «سوق المقاصيص، حيث أعاد لي الذاكرة إلى سنوات خلت عندما كنت أرافق فيها والدي، رحمه الله، إلى سوق المقاصيص في قلب المنامة، حيث الزحام والبضائع المتنوعة، كان أبي مغرماً بالكتب القديمة، يقلب صفحاتها كأنه يعانق من كتبها، أما أنا فكنت أبحث عن أي شيء غريب.ومع انتقال السوق إلى مدينة عيسى، نجح في المحافظة على ما هو عليه؛ بسيطاً وشعبياً وصادقاً، لم تتغير روحه، حيث الباعة البسطاء والزبائن عابرون ومحبون، وتلك الروح الإنسانية التي كانت تظلل السوق تحتاج إلى قوانين أو تشريعات تنظمها.ثم جاءت جائحة كورونا؛ فأغلقت الأبواب، وضاعت العناوين، وتوقفت الأرجل عن زيارة المكان، لم يكن الأمر مجرد قرار صحي، بل كان فصلاً من فصول الإقصاء الصامت لذاكرة كاملة.تجاوزت البلاد آثار الجائحة، لكن السوق لم يتجاوز محنته، فقد تم ترحيله من زاوية إلى أخرى، حتى استقر على جانبي أحد شوارع مدينة عيسى، حيث يفترش الباعة الأرصفة تحت أشعة الشمس الحارقة، بأجسادهم منحنية أمام البضاعة، فلا تخطيط ولا مظلات ولا حتى احترام.تخيل أن مصدر رزقك الوحيد هو طاولة متهالكة على رصيف ساخن، وسيارة تمر على بعد سنتيمترات منك، وعينك لا تراقب الزبون، بل تترقب الخطر، هذا ملخص ما يعيشه باعة سوق المقاصيص اليوم.ولمن يستخف بالمشكلة نقول؛ سوق المقاصيص ليس مجرد تجارة، هو تاريخ للناس البسطاء الذين يصنعون من القديم فرصة، ومن الخردة حياة، هو مورد رزق لمن لا وظيفة له ولا تقاعد يحميه، هو السوق الذي لا يشبه المولات ولا يريد أن يشبهها.ما يطلبه الباعة ليس معجزة؛ فقط قطعة أرض وبعض المظلات وخدمات بسيطة في مكان منظم، لا يريدون أسقفاً فخمة ولا ألواح رخامية، فقط ما يحميهم من حر الشمس ومطر الحاجة.ما أتمناه؛ إذا تم التحرك وإيجاد مكان مناسب للسوق، ألا يتحول إلى مول مغلف بالبروتوكولات، وتفرض عليه شروط تقتل روحه، لا تزيفوا عفويته، ولا تفتحوا له الأبواب الخلفية ليدار من جنسيات تتحكم في الأسواق الشعبية كما حدث في غيره.باعة سوق المقاصيص، هم جزء من نسيجنا الوطني، من قصصنا اليومية، من العرق الذي يبلل أرض البحرين بصمت، كل يوم يمر وهم على الرصيف، هو صفعة على وجه الذاكرة وطعنة في كرامة البسطاء.لقد آن الأوان لأن نعيد لهذا السوق مكانته، لا لشيء بل لأننا إن لم نفعل سنفقد ما تبقى من الملامح التي تشبهنا.سوق المقاصيص.. لم يكن يوماً عن الأشياء، بل عن الناس الذين يصنعون من الأشياء حياة.