لم أستطع أن أُوقف تدفق الذكريات البيروتية العائلية عند رؤية ردود الأفعال الواسعة والمشاهد المؤثرة فور الإعلان عن وفاة زياد الرحباني، والتي زاد من زخمها الظهور النادر لوالدته، وقد طغى حضورها المهيب على مراسم تأبينه ووداعه.

وكالعادة، لا شيء ينبعث من البيت الرحباني إلا وارتبط بشكل عضوي وتلقائي بالهوية اللبنانية العروبية، ليحتل مكانته الخاصة كرمز ثقافي خالد في الوجدان الوطني، تاركاً بصمات لا تُنسى على ساحات الإبداع الفني، وعلى الذاكرة الجمعية التي تأخذها الحنجرة الفيروزية إلى أجمل الأزمان.

وفي اعتقادي، فإن سر نجاح المشروع الرحباني يكمن في فهمه للمعنى الحقيقي للإبداع واحترام الأذواق، وترجمته الفنية الراقية للمشاعر الإنسانية. أضف إلى ذلك الطاقة الروحية والغنائية الهائلة التي امتلكتها «الست فيروز»، الوجه المشرق للمدرسة الفنية الرحبانية، التي أصبحت اليوم «علامة لبنانية» أصيلة بوهج عالمي.

والثابت في هذه الظاهرة الفنية العربية هو رصيدها الضخم وإنتاجها الرصين، الذي يرتقي بها لمرتبة «الثروة القومية». وبالتالي، لا يمكن بأي شكل من الأشكال فصلها عن ينابيع لبنان الثقافية والإبداعية، التي سقت وعي من نشأ على ضفافها، وعاصر مناخاتها المحفزة للتميز في كل شيء، خصوصاً فترة ما قبل الحرب الأهلية؛ فلبنان ما بعد الحرب لم يعد كما كان، وقد سُلب منه دوره العتيق كمصنع للمعرفة الإنسانية وكعمق استراتيجي عربي لا غنى عنه.

أما بالنسبة لي، فإن الذكريات البيروتية التي أشرتُ إليها في بداية المقال ليست مجرد لحظات عابرة، إنما يمكن اعتبارها مشاهدات بقراءة شخصية لقوة المد الثقافي والفكري للبنان على قاصديها من أهل العلم، الذين قدموا، بدورهم، نسختهم الخاصة من وحي الحراك النهضوي اللبناني، الذي كان يبشر بتطوره المتدرج والسابق لأوانه في مواجهة المستقبل، لولا معاكسة الأحداث السياسية التي كبحت ذلك المد.

وفي البحرين تحديداً، هناك جيل كامل ممن تفتح وعيه المبكر على ساحات بيروت وجامعاتها العريقة، واستثمر فرصة الابتعاث إليها ليؤثر ويتأثر بالحياة اللبنانية المتجددة. واللافت في أمر هؤلاء، أنهم، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية، تحلّوا جميعاً بثقافة عالية وأداء واثق، بفضل ما قدمته لهم البيئة الفكرية في لبنان، التي كانت في ذلك الوقت تزودهم بجرعات عالية من الحرية الفكرية الصحية، للوقاية من فيروسات التطرف الديني وموجات التثوير الأيدلوجي التي كانت تلوح في أفقها.

وهذا جانب وجدته متجسداً على فكر وشخصية والدي تحديداً، وأنا أراقب عمق تأثيرات الاثنتي عشرة سنة التي عاشها في لبنان كمبتعث للدراسة في الجامعة الأمريكية ببيروت، حيث نال منها كافة درجاته العلمية، بل ومارس مهنة التدريس فيها.

واللافت في ذلك التأثير أن خلاصة التجربة ظلت ترافقه طوال حياته، ولم يترك فرصة إلا وأشاد بتأثير نظامها الأكاديمي الحر وأجوائها الثقافية المنفتحة على مسيرته الفكرية، التي تحررت قدر المستطاع من الاصطفافات والتشنجات في الرؤى والمواقف. كما بقي مخلصاً لها، لكونها الرافعة التي ارتقت به إلى عوالم البحث العلمي والأكاديمي المنجية من قيود العمل الإداري وظلمات التعصب الحزبي والعقائدي.

وإذا كانت العاصمة العربية بيروت أحد أهم محطاته الحياتية، فقد اعتبر الجامعة الأمريكية بمثابة «الملتقى العظيم»، الذي لقنه أول الدروس في منهج التوفيقية بين الأضداد الفكرية في تراثنا العربي والإسلامي.

وهناك، تعرف على أشهر مفكريها وأدبائها، كخليل حاوي، وقسطنطين زريق، ونديم نعيمة وكمال اليازجي، وغيرهم من الشخصيات الذين جمعهم همّ واحد، وهو كيفية إنقاذ الواقع العربي من إشكالاته.

خلاصة القول، إن لبنان، الذي عرفناه من خلال عيون وأعمال كل هؤلاء، يحمل في صلبه الحضاري العوامل المطلوبة لاستعادة مكانته كحاضنة تولّد أجمل التجارب وأعمقها... شكلاً ومضموناً. وقد نكون على موعد قريب لمثل هذه العودة المأمولة، وكما تطلعت لها قيادة البلدين مؤخراً، للعمل تحت أفق شراكة إنسانية متجددة وفي ظلال السلام الشامل الذي ننتظره على أحرّ من الجمر.