نورا الفيحاني
انعقدت على أرض المنامة، يوم الاثنين الرابع من أغسطس 2025، ندوة فكرية حملت في طياتها أكثر من مجرد حوار أكاديمي؛ فقد كانت بمثابة إعلان طموح عن توجه استراتيجي يلامس المستقبل الاقتصادي والبيئي للبحرين، فتحت عنوان «المسارات المستقبلية للطاقة النووية»، جمعت ندوة مركز «دِراسات» نخبة من الخبراء والدبلوماسيين وممثلي المؤسسات الوطنية، ليرسموا معاً ملامح فرصة استثمارية مستدامة فريدة، تتجاوز حدود إنتاج الطاقة إلى آفاق التنويع الاقتصادي والريادة البيئية.
مناسبة هذا الحوار هو توقيع مذكرة تفاهم بين مملكة البحرين والولايات المتحدة الأمريكية حول التعاون في تطبيقات الطاقة النووية السلمية، خلال الزيارة الأخيرة لصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء إلى واشنطن، هذه المذكرة كانت بمثابة جواز سفر للمملكة نحو مصاف الدول الراغبة في تأمين مستقبل طاقوي مستقر ومتنوع، ينسجم مع خطط الحياد الصفري، ويرسم ملامح اقتصاد أخضر قادر على الصمود.
وفي قلب هذا الحوار، برزت تقنية «المفاعلات المعيارية الصغيرة» (SMRs)، وصفها الدكتور عبدالله العباسي، مدير برنامج الطاقة والبيئة في «دِراسات»، بالحل الأمثل لمستقبل الطاقة في البحرين. فهذه المفاعلات، بمرونتها الفائقة ومستويات الأمان العالية وتكلفتها الرأسمالية الأقل نسبياً، تفتح أبواباً جديدة، إنها نواة لمشاريع قابلة للتوسع تدريجياً، تلامس احتياجات حيوية، من توليد الكهرباء النظيفة لدعم النمو الصناعي والسكاني المتزايد، إلى استخدام حرارتها في تحلية مياه البحر بطرق مستدامة تخفف العبء البيئي الهائل، وصولاً إلى دفع عجلة الصناعات البتروكيميائية بمنحها مصدراً ثابتاً للطاقة، كما أشار الدكتور محمد علي بن شمس من جامعة البحرين.
لكن الاستثمار المستدام هنا لا يتوقف عند بناء المفاعلات نفسها، إنما يمتد ليشمل خلق سلسلة القيمة النووية بكاملها، وهذا ما أكده الدكتور العباسي والدكتور بن شمس معاً مشددين على ضرورة بناء الكوادر البحرينية المؤهلة ووضع البنية التشريعية والفنية الرصينة؛ حيث إنه مجال خصب للاستثمار في برامج تعليمية وتدريبية متخصصة بالشراكة مع جامعات ومؤسسات عالمية رائدة، وفي تطوير أطر قانونية واستشارية دقيقة تضمن أعلى معايير السلامة والأمن النووي التي لا تقبل المساومة، وفي تهيئة البنية التحتية الداعمة من أنظمة مراقبة وتأمين سيبراني متقدمة.
كما نبّه الدكتور محمود إبراهيم من «بابكو إنرجيز» إلى أن جوهر الاستدامة يكمن في التكامل الذكي، حيث تعمل الطاقة النووية جنباً إلى جنب مع المصادر المتجددة، بل وحتى مع المصادر التقليدية عند رفع كفاءتها، مدعومة بشبكات ذكية قادرة على إدارة هذا المزيج ببراعة.
لا شك في أن الطريق أمام هذا التحول الطموح يحمل تحديات، أبرزها حجم الاستثمارات الأولية المطلوبة والإعداد الدقيق للبيئة التشريعية والفنية، لكن الندوة رسمت خريطة واضحة لتجاوزها، وذلك عبر شراكات دولية استراتيجية تستفيد من خبرات الوكالة الدولية للطاقة الذرية وشركاء مثل الولايات المتحدة في نقل التكنولوجيا وبناء القدرات، ومن خلال تشريعات محكمة وجذابة تحمي المستثمر وتضمن الشفافية، باستثمار حقيقي في العنصر البشري، عبر إشراك الكفاءات الشابة وإعدادهم لقيادة هذا القطاع الواعد.
ما حدث في قاعة «دِراسات» كان أكثر من نقاش، كان إطلاق شرارة لرحلة بحرينية طموحة نحو أفق اقتصادي أكثر تنوعاً واستدامة وقدرة على المنافسة، فالطاقة النووية السلمية، وخاصة بنسختها المعيارية الصغيرة، ليست مجرد مصدر للطاقة، بل هي بوابة استثمارية عريضة نحو اقتصاد معرفي متطور وأمن طويل الأمد وبيئة أنظف.
مملكة البحرين، بموقعها الجغرافي المميز وعلاقاتها الدولية المتينة ورؤيتها الاستراتيجية الثاقبة، تُهيئ نفسها لتكون نموذجاً إقليمياً يُحتذى في مجال الطاقة المستدامة المتكاملة، فأمام المستثمرين أرض خصبة لمستقبل مزدهر.