ننشغل بفكرة الوصول إلى الأهداف الكبرى، بهوس تحقيق الأرباح، أو اقتناص الفرص التي نعتقد أنها ستغير حياتنا المهنية أو مسيرة المؤسسة بشكل جذري. لكن في غمرة هذا السعي، ننسى أن القيمة الحقيقية لا تكمن دائماً في «الكنز» الذي نبحث عنه، بل في الرحلة التي نخوضها للوصول إليه.
ركزوا معي هنا. مجموعة من حيوانات الغابة قررت الخروج في رحلة للبحث عن كنز أسطوري قيل إنه يمتلك قوة عظيمة. كان يقودهم الأسد، بحماسه وقوة شخصيته، وكان بينهم هدهد يعرف الجميع حكمته رغم صغر حجمه.
أثناء توقف الجمع في الطريق، تساءل الهدهد بهدوء: «هل أنتم متأكدون أن الكنز هو ما تبحثون عنه؟!». السؤال بدا بسيطاً لكنه أربكهم؛ فالجميع كان يرى في الكنز غاية كبرى، فهو المال، القوة، السعادة وكل شيء آخر!لكن الهدهد بصوته المتزن، أشار إلى فكرة قد تكون غائبة عنهم، إذ قال لهم: «ماذا لو كانت الرحلة نفسها، بتجاربها ومواقفها، هي الكنز الحقيقي؟!».
قوبلت كلماته بالاستخفاف، وتمسك قادة الجمع برؤيتهم الواضحة للهدف. إلا أن ما حدث لاحقاً، حين واجهت المجموعة تحديات غير متوقعة وأزمات استنزفت طاقاتهم وشتتت تركيزهم، غير شيئاً في داخلهم. لم يجدوا الكنز المادي، لكنهم عادوا إلى نقطة البداية وهم يشعرون بأنهم خرجوا بشيء أعمق بكثير. لقد اكتشفوا أن اللحظات التي عاشوها معاً، العلاقات التي بنوها، والدروس التي تعلموها كانت أثمن بكثير مما كانوا يطمحون إليه.
في الإدارة الذكية نقول ونؤكد دائماً، بأن النجاح ليس في الوصول فقط، بل في كيفية الوصول؛ إذ كم من مؤسسة ركزت على مؤشرات الأداء والنتائج القابلة للقياس، ففقدت في الطريق روح فريقها، وأهملت بناء ثقافة داخلية قوية. وأيضاً، كم من قائد سعى لتحقيق «الكنز» فقط، دون أن يدرك أن أعضاء فريقه كانوا بحاجة إلى بيئة تعلم وتقدير، لا مجرد سباق نحو الأهداف الخارجية أولاً.
القائد الحكيم هو من يدرك أن العملية الإدارية ليست مجرد خطة تنفذ أو هدف يُحقق، بل هي مسيرة إنسانية ومهنية، يتعلم فيها الناس، ينمون، ويكتشفون أنفسهم.
صوت الهدهد في القصة يشبه تلك الأفكار التي نسمعها أحياناً من أعضاء الفريق الذين لا يتحدثون كثيراً، أو الذين لا نعتبرهم من صناع القرار، لكنها تحمل في طياتها بعداً لا توفره الأرقام أو المؤشرات. الاستماع لمثل هذه الأصوات، والاهتمام بجودة الطريق كما نهتم بوضوح الهدف، قد يكون الفارق بين قطاع ينمو ببطء، لكن بثبات ويدوم مستقبلاً، وآخر يحقق قفزات، لكنه ينهار من الداخل ويتدمر مستقبلاً.
أعظم ما يمكن أن يخرج به القائد من أي مشروع، ليس مجرد إنجازه، بل الفريق الذي خرج معه أقوى، والثقافة التي نمت خلال العمل، والقيم التي ترسخت. لأن الكنز، كما قال الهدهد، ليس دائماً في آخر الطريق أحياناً، هو في الطريق ذاته.
اتجاه معاكس
هنا يتجلى الفكر الإداري والذكاء القيادي في عملية بناء الفرق، وضمان العمل الجماعي، والاستمتاع بالإنجاز من خلال تعزيز رحلة العمل بكافة تفاصيلها، وكل ذلك حتى قبل أن نصل للنتائج.
وتحديدا أتحدث هنا عما أسسه صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء حفظه الله حينما واجهت البحرين إحدى أكبر الكوارث الصحية العالمية قبل خمس سنوات، أتحدث عن «فريق البحرين» والفلسفة وراءه، وكيف وحد الجميع تحت هذا الشعار الجميل، وكيف مازال كثيرون يحرصون أن يعملوا مع بعض وفق مبادئه، وانطلاقاً من وحيه إلى وقتنا الراهن، وباتجاه المستقبل.