لدى كل فرد منا، صالة للمفاوضات، أو قاعة محكمة، لكنها افتراضية في رأسه، يستخدمها كمسرح لمحاكاة مناقشات ستجري في الحقيقة لاحقاً، في هذه الصالة، نتقمص أدواراً عدة، منها دور محامي الدفاع، ودور كاتب العرائض، والأهم دور كاتب السيناريو، فعملية المحاكاة هذه يجب أن تكون متقنة، لأنها في الواقع تعقد استعدادا لخوض معركة مهمة، أياً كان الطرف الآخر فيها، فلطالما عقدت استعداداً لمواجهة مع المدير في العمل، عندما نحاول إقناعه بشيء أو الرد على تصرف بدر منه لم يعجبنا، أو مواجهة مع زميل لم يؤدِ مهمته، فارتد سلوكه سلباً علينا، وقبل ذلك وفي مرحلة الطفولة وما بعدها بقليل أجرينا هذه المحاكاة مراراً استعداداً لمواجهة المعلمة في المدرسة لتبرير عدم تقديم واجباتنا، المهم جلسات المحاكاة هذه كانت وما زالت ضرورة ملحة لنا، لكن هذه العملية ليست مرحلة واحدة، إنما هي مراحل على الجانب الافتراضي، تليها مرحلة على الجانب الواقعي، وكما يأتي:

تبدأ المرحلة الأولى بكتابة السيناريو المحكم، وهذه نكون فيها الكاتب، والمخرج، وبطل العمل، بدايتها صياغة الجملة الأولى، وربما قبلها رسم صورة لتوقيت الجملة الأولى، وطبعاً هذه الجملة تجمع بين القوة والهدوء والحكمة، مدعومة بالأدلة، تليها جمل لإذابة الجليد، وربما تلطيف الجو، وربما عكس ذلك تماماً – حسب الموقف – وفي هذه المرحلة، وبعد أن ننتهي من إعداد المدخل، نبدأ بتوقع رد الفعل من الطرف الآخر، وعادة ما نتوقع الأسوأ، ونتفاعل معه ويتغير مزاجنا فعلياً، ونتحامل على الطرف الآخر ونغضب منه، كل هذا قبل أن يحصل شيء في الواقع، ولا يمكن أن يغيب عن بالنا أننا على حق وغيرنا على باطل. بعد أن نتجاوز هذه المرحلة نبدأ بتهيئة أنفسنا للمواجهة وهنا تجري عملية محاكاة عقلية لطريقة الأداء، كيفية الحركة والنظرات والمؤثرات التي نستخدمها، وهنا بعضنا ينفذها على شكل «بروفة» في الواقع، فينطق الكلام فعلياً ويعيده مراراً ليحفظ ما سيقول، وكيف ستكون لغة جسده مع كل جملة، ويركز على مستوى الصوت ونبرته، حتى يصل إلى المرحلة الثالثة، وهي قناعة عقله بالنصر المؤزر في هذه المواجهة، وهنا يرتفع سقف التوقعات من المواجهة، وقد يصل في بعض الأحيان إلى أبعد من تحقيق المطلوب من المواجهة، ليصل إلى زيادة بمكافأة أو تسجيل هدف لاحتسابه مستقبلاً، وهنا تنتهي المحاكاة ومراحلها الثلاثة، لنتوجه بعدها إلى الواقع، وهي لحظة المواجهة الفعلية، وفيها تنهار كل السيناريوهات وتغيب أكثر الكلمات، وتضيع تعابير الوجه، ولغة الجسد التي تدربنا عليها، وننتقل إلى المواقف الارتجالية – في كثير من الحالات – وقد يكون اللقاء ودياً بعيداً عن الموضوع الأساسي، وتنتهي المواجهة بعدم تحقيق الهدف، وفي حالات كثيرة يضاف لها تحمل أعباء وهموم جديدة إضافة للتي أتينا من أجل التخلص منها، نعود بعدها إلى صالة المفاوضات أو المحكمة الافتراضية في رأسنا، لنعيد استعراض ما حدث على أرض الواقع فعلياً، مع تصحيح الجزء الخاص بنا وهو إعداد ردود مناسبة وصحيحة كان يجب علينا قولها في الواقع، لكننا لم نفعل، إلا أن تحقيق النصر ضروري بالنسبة لنا، حتى لو اكتفينا بالنصر في عقولنا، وفي الواقع كانت هزيمة نكراء.

* عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية