أشارت التقديرات الصادرة عن «جارتنر» بأنّه بحلول 2026 ستستخدم 20% من المؤسسات الذكاء الاصطناعي لتسطيح هياكلها التنظيمية، بما قد يفضي إلى إلغاء أكثر من نصف وظائف الإدارة الوسطى؛ وهو اتجاهٌ وثّقته كذلك تقارير Harvard Business Review وSHRM. السؤال الذي تبادر في ذهني: هل يعني ذلك نهايةَ دور هذه الوظائف أم بداية صياغةٍ أذكى لها؟ بوصفنا نحلّل الأعمال، أُذكّر نفسي والقراء الكرام بأنّ التوقعات المستقبلية تُنير الطريق، لكنها لا تقودنا إلى حقائق مثبتة؛ وأنّ التقنية تُسرِّع الحركة، لكنها لا تمنحنا الاتجاه ولا المعنى؛ لأنهما ببساطة صناعةٌ بشرية في الأساس.
الحقيقة أن الذكاء الاصطناعي لا يمحو وظائف الإدارة الوسطى في المؤسسات والشركات بقدر ما ينقل مركز ثقلها ويُعيد تشكيلها. فالمهام التي استهلكت شاغلي هذه الوظائف، كالمديرين والرؤساء التنفيذيين مثلاً، لسنوات - الجدولة، متابعة المستجدات، الموافقات الروتينية، التحليل الأولي، والتدقيق - هي بالضبط ما تُتقنه الخوارزميات اليوم، وما ستُتقنه النماذج الذكية غداً على نحوٍ أسرع وأدق. ومع انتقال هذا العبء إلى الآلة، يتحوّل الدور الإشرافي لهذه الوظائف من «حُرّاس إجراءات» إلى «مهندسي منظومات» ليقرّروا ما يُؤتمَت، وما يُدعَّم، وما ينبغي أن يظل بشرياً لأنه مشروط بالسياق والقيم والإبداع. بهذا المنطق، السؤال ليس: كم مديراً نستغني عنه؟ بل: أي مكوّناتٍ ننقل إلى الآلة من غير أن نُبدّد رأس مالنا المعرفي ومسارات التطور المهني؟
ومن الزاوية الأقرب لما خرجتُ به بعد قراءتي لمقال فيصل هوك المنشور في Fast Company الأسبوع الماضي، أرى أن الخلاصة العملية ليست في تفريغ وظائف الإدارة الوسطى؛ بل في إعادة تعريفها حول ثلاث وظائف عالية العائد للمؤسسات: أوّلها «منسّق» يضبط الإيقاع بين الإنسان والآلة، ويحدد متى نثق بمخرجات النماذج ومتى نتجاوزها؛ وثانيها «وكيل تغيير» يعيد هندسة وتصميم العمليات، ويتعامل مع الغموض كفرصة؛ وثالثها «مدرّب» يبني الثقافة الرقمية ومهارات التفكير النقدي والتحقق الأخلاقي والتواصل، ليظل منحنى تعلّم البشر أسرع من منحنى تطوّر الأدوات. عند هذا التقاطع، تصبح الإدارة الوسطى رافعةَ قدرة لا مجرد رقابةٍ على الجهد.
وفقاً لهذه المعطيات؛ يتعيّن أن نخرج من التنظير إلى إجراءات أكثر عملية عبر إعادة توصيف وظائف الإدارة الوسطى وإعادة توجيهها، فالمؤشرات والأدوار التقليدية لم تعد تُنبئ بالأثر. المعيار الأهم هو القدرة على التكيّف، والطلاقة في أدوات الذكاء الاصطناعي، والانضباط في التحقق ومعالجة أي إخفاقات قد تحدث؛ لذا نحتاج مسارات وأدواراً جديدة تُترجم فلسفة عمل هذه الوظائف إلى قيادة التكامل الذكي بين الإنسان والآلة كتفكيك التدفقات وتصنيف خطواتها إلى «مؤتمتة/مدعومة/بشرية بحتة»، واعتماد مصفوفة توزيع المسؤوليات (RACI) التي تُحدّد «من ينجز، من يعتمد، من يُستشار، من يُبلّغ»، مع تحديد نقاط «الإنسان ضمن الحلقة (HITL)» بحيث تبقى القرارات بشرية بحكم المخاطر والسياق. ويُضاف إلى ذلك إنشاء سجل استخدام للذكاء الاصطناعي على مستوى الفريق (مهمة/أداة أو توجيه/نتيجة أو مخاطرة) لبناء معرفةٍ تراكمية قابلة للتعلم، وتدريب مستمر على التحقق من المخرجات وإدارة المخاطر، وحوكمة بياناتٍ تضمن الخصوصية والجودة وقابلية التدقيق. هذه ليست تفاصيل تشغيلية فحسب؛ إنها اللغة الجديدة التي ينبغي أن تتكلم بها الأدوار الجديدة لوظائف الإدارة الوسطى ليكون بمقدورها ضبطُ الإيقاع بين كفاءة الأتمتة وحكمة الإنسان.
وأخيراً؛ تبقى الحوكمة شبكة الأمان التي تمنح السرعة معناها: مؤشرات أداء مهنية (KPIs) لكل دور، خرائط تدفقات معلومة، نقاط HITL محددة، وقرار واضح عمّا يُؤتمت وما يبقى بشرياً دائماً، مع توثيقٍ شامل يضمن قابلية التدقيق والثقة. من خلال ذلك نقيس هدفين معاً: كفاءة تُرى في زمن القرار ودورات الإنجاز، ونزاهة وتنمية تُرى في مشاركة الموظفين، مع مراقبة الإشارات المبكرة للاحتراق الوظيفي حتى لا يُخفيها بريق الأتمتة، لتذهب السرعة للآلات ويبقى القرار للبشر.